التجربة الملهَمة كمحدد ميداني لمعرفة النفس عند الصوفية - بريس تطوان - أخبار تطوان

التجربة الملهَمة كمحدد ميداني لمعرفة النفس عند الصوفية

أولا:العلم اللدني والإلهام (ترادف أم تلازم ؟)

لا شك أن التجربة وفهمها بالتكرار والعادة هي أساس معرفة النفس ومحدد إمكانها وعدم إمكانها بحسب المستوى الذي يكون عليه المجرب،لأنه في أثناء الاختبار فقد يصبح المجرب وخاصة في الحقل الصوفي يتطلع إلى مقام التحصل على العلم اللّدني أو الإلهام الذي به قد يعرف حقيقة النفس ويميز بين الخواطر تمييزا موضوعيا ودقيقا. فكما يقول الشيخ محيي الدين ابن عربي الحاتمي:”فقد عرفتك بالنفس وأنها المحركة للجوارح  بما يغلب عليها إما من ذاتها أو مما تقبله من الملك أو الشيطان فيما يلهمها به . فعلم الإلهام هو أن تعلم أن الله ألهمك وعلى أي طريق جاءك ذلك الإلهام من ملك أو شيطان وما يخرج من قبيل الأمر والنهي المشروع . فهو العلم اللدني ما هو الإلهام ، فالعلم بالطاعة إلهامي والعلم بنتائج الطاعة لدني ففرق ما بين العلم اللدني والإلهام. فالإلهام عارض طارئ يزول ويجيء غيره، والعلم اللدني ثابت لا يبرح، فمنه ما يكون في أصل الخلقة والجبلة كعلم الحيوانات، والأطفال الصغار ببعض منافعهم ومضارهم فهو علم ضروري لا إلهامي… والإلهام هو ما يلهمه العبد من الأمور التي لم يكن يعرفها قبل ذلك. والعلم اللدني الذي لا يكون في أصل الخلقة فهو العلم الذي تنتجه الأعمال،فيرحم الله بعض عباده بأن يوفقه لعمل صالح فيعمل به فيورثه الله من ذلك علما من لدنه لم يكن يعلمه قبل ذلك …”[1].

فالإمكانات المعرفية في المدرسة الصوفية قد تعطي لمعرفة النفس نفسا أوسع من أي تخصص آخر ،وذلك لما يعرفه الصوفي من ترقي روحي وإدراكي يكشف له كل لحظة عن سر من أسرار النفس من خلال تجربته الملتزمة ومجاهدته العملية المتواصلة والمداومة على سبيل الصحوة الروحية واليقظة التامة كما سنرى بالتفصيل .

ولهذا كما يقول ابن عربي :”ما عثر أحد من العقلاء على معرفة النفس وحقيقتها إلا الإلهيون من الرسل والصوفية . وأما أصحاب النظر وأرباب الفكر من القدماء والمتكلمين في كلامهم في النفس وماهيتها فما منهم من عثر على حقيقتها ولا يعطيها النظر الفكري أبدا،فمن طلب العلم بها من طريق النظر الفكري فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم .لا جرم أنهم من الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ” فمن طلب الأمر من غير طريقه فما ظفر بتحقيقه.وما أحسن ما قال الله تعالى في حق العالم وتبدله مع الأنفاس في خلق جديد  في عين واحدة فقال في حق طائفة بل أكثر العالم . “بل هم في لبس من خلق جديد ” فلا يعرفون تجديد الأمر مع الأنفاس”[2].

ومن هنا فمعرفة النفس لها خصوصياتها كما أن لها مختصين يمارسون التعامل معها ميدانيا وبدقة متناهية. لأن أمر النفس له أساس عقدي ابتداء وغاية.

وحينما تصاب النفس بالعلل والآفات فإنه قد يلزم مداواتها عن طريق أهل التخصص وهم العارفون بالله من الأولياء بعد الرسل والأنبياء. فيكون من الضروري إذن وجود علم نفس هو بداية السلوك ومصححه. وهذا العلم هو علم العلل والأدوية و”يحتاج إليه من يربي من الشيوخ ولا تنفع هذه الأدوية إلا فيمن يقبل استعمالها فإن لم يستعملها العليل فلا يظهر لها أثر. فالأودية المختصة بها العلل في هذه الطريقة ليس لها محل إلا النفوس خاصة لاحظ للعقول فيها ألبتة ولا للأبدان ،فإن علل العقول معروفة وعلل الأجسام معروفة وأدوية علل الأجسام موقوفة على الأطباء وأدوية علل العقول اتخاذ الخلوات بالميزان الطبيعي وإزلة التفكر فيها ومداومة الذكر ليس غير ذلك، وما بقي لنا الخوض فيه إلا علل النفوس وهي ثلاثة أمراض : مرض في الأقوال ومرض في الأفعال ومرض في الأحوال”[3].

فعلم العلل هو الميدان الأقرب إلى معرفة النفس بالمفهوم الصوفي كما سبق ورأينا عند تعليقهم تعريفاتهم للنفس من حيث أنها “المعلول من أوصاف العبد، وإدراك هذه العلل هي من نتائج تجربة وممارسة صارمة ومتواصلة تصل إلى حد المهارة والتخصص . وبهذا يصل الصوفي إلى أقصى درجات الإمكان المعرفي على مستوى العلل . ولن يتم هذا التوصل أو التحصيل المعرفي إلا بواسطة شيخ ممارس واصل إلى مستوى الخبرة في الميدان[4].

  ثانيا: التجربة الصوفية ومبدأ اعتماد الخبير النفسي(الشيخ المربي)

وهذا الشيخ ينبغي أن يتصف بدوره بصفات تجمع بين العلوم الشرعية والتقيد بالكتاب والسنة قولا وفعلا وعقيدة ،وأن يكون عارفا بميزان الخواطر كلها: خاطر النفس أو الشيطان أو الملك أو الخاطر الرباني ويعرف الفرقان بين هذه الخواطر، ومن شرطه أيضا أن يكون عارفا بالعلل والأمراض المتعلقة بالأبدان والأرواح ليغني مريده عن سؤال غيره [5]

وقد ذهب الحكيم الترمذي في تعريف مثل هذا الشيخ المتخصص في علم العلل وإدراك نزعات النفس بأنه يوجد صنف من العارفين وصفهم بأنهم “فقهوا لما بصروا صورا لأشياء في صدورهم وعاينوا ما في صور الأشياء من المعاني. فإذا طالعوا ما في المعاني كان لهم الوجود في المعاني من المطالعة سمي ذلك الوجود بصيرة وهي بصيرة النفس.لأنه لما كان لهم الوجود انكشف كل غطاء دق أو جل وخشعت النفس له وجالت قلوبهم في الملكوت  الأعلى وفتح لهم من الحكمة العليا”[6].

كما قد ذهب الاهتمام بحدود الإمكان المعرفي في المجال النفسي إلى اعتبار أن العلم الذي طلبه فرض على كل مسلم هو العلم بالنفس وأحوالها وعقباتها وهو الذي استدل عليه قد في بداية كتابه إحياء علوم الدين استقراء.

وهذا العلم النفسي قد يشمل أول ما يشمل علم العلل كما اصطلح عليه ابن عربي وكذا علم الحكمة عند الكلاباذي. فعلم الخواطر هو علم المعرفة المؤدي إلى علم الإلهام والمكاشفات … وقد جمع أبو طالب المكي هذه المصطلحات وغيرها في تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم والمقصود من حديثه “طلب العلم فريضة على كل مسلم“. وكذلك الحديث، بغض النظر عن موقف الرواة منه، وهو “اطلبوا العلم ولو بالصين“.

فيقول بخصوص المناحي في تفسير الحديثين ملخصا أقوال بعض العلماء “قال عالمنا أبو محمد سهل رحمه الله : أراد بذلك علم حال . يعني علم حال العبد من مقامه الذي أقيم فيه بأن يعلم أحدكم حاله. والذي بينه وبين الله عز وجل في دنياه وآخرته خاصة، فيقوم بأحكام الله تعالى عليه في ذلك. وقال بعض العارفين : معناه طلب علم المعرفة وقيام العبد بحكم ساعته ما يقتضيه منه في كل ساعة من نهاره وقال بعض علماء الشام إنما عنى به طلب علم الإخلاص ومعرفة آفات النفس ووساوسها ومعرفة مكايد العدو وخدعه وغروره وما يصلح الأعمال ويفسدها فريضة كله من حيث كان للإخلاص في الأعمال فريضة ،ومن حيث أعلم بعداوة إبليس ثم أمر بمعاداته وذهب إلى هذا القول عبد الرحمن بن يحيى الأرموي ومن تابعه وقال بعض البصريين في معناه: طلب علم القلوب ومعرفة الخواطر وتفصيلها فريضة لأنها رسل الله تعالى إلى العبد ووسواس العدو والنفس فيستجيب لله تعالى بتنفيذ ما منه إليه . ومنها ابتلاء الله تعالى للعبد واختبار تقتضيه ومجاهدة نفسه في نفيها ولأنها أول النية التي هي أول كل عمل وعنها تظهر الأفعال، وعلى قدرها تضاعف الأعمال فيحتاج أن يفرق بين لمة الملك ولمة العدو وبين خاطر الروح ووسوسة النفس وبين علم اليقين وقوادح العقل ليميز بذلك الأحكام . وهذا عند هؤلاء فريضة وهو مذهب مالك بن دينار …”[7].

    ثالثا:الإيحاء الذاتي وضبط الخواطر 

فعلم الخواطر خاصة سيمثل مرتعا خصبا وطريقا دقيقا نحو تحقيق معرفة النفس في حدود الإمكان بالمفهوم الصوفي،لأنه السبيل إلى إزاحة العلل بل الحيلولة دون السقوط في العلل النفسية شعوريا أم غير شعوري.

من هذه الأهمية فسيصبح هذا العلم مؤسسا على منهجية،بل هو من سيفرزها من خلال التجربة والممارسة للتمييز بدقة بين دوافع الخير والشر الواضحة، وكذلك بين دوافع الخير المنطوية على خلفية وغاية شريرة[8]، وبين الدوافع التي قد تبدو في بداياتها شريرة بينما هي  قد تنطوي على مصلحة وبعد خير. أي -بمعنى آخر- قد تصبح مرآة النفس قادرة على الحدس وتصور الوسيلة والغاية على الحقيقة. وفي مثل هذا المعنى يقول المحاسبي: “وقد أضل العدو الخبيث – يعني الشيطان – عن الله كثيرا من الناس بالخير وأضل كثيرا منهم بالشر. وإنما أضل من أضل منهم بالخير لقلة معرفتهم بما يمازج الخير من الشر فجهلوا معرفة ذلك وأوهمتهم أنفسهم أنهم على خير وهدى وطريق محبة وسبل استقامة،وهم ضالون عن الله عادلون عن طريق محبته وسبل الاستقامة إليه.وإنما ذلك من كثرة الآفات التي تلحق الأعمال وقلة علم العمال بها، ما أغفل الناس عن أنفسهم وعن أهوائهم وعن عدوهم !فنعوذ بالله من الغفلة والسهو والنسيان يردي ويفسد الأعمال .

والحري أن تارك الشر يكون تركه له على قدر ما يعرفه من ضرره وهو قائم بغرض تقرب إقامته من الله زلفى. وطالب الخير يكون طلبه على قدر ما يرجو ويعرف من منفعته. ومن أن العلم شيء والمنفعة شيء، وربما كان علم ولم يكن صاحبه به عاملا وربما كان علم وعمل ولم تكن منفعة وربما كان علم وعمل ومنفعة ثم يكون بعد ذلك إبطال وإحباط وربما علم العبد وعمل وانتفع وسلم وتم “[9].

“فالعالم لا يزال إلا بعدما تعمى عليه النفس طريق العلم ، والجاهل يقع في الجهل ويخطئ الطريق،والحكيم لا يميل إلى النفس وإلى الدنيا إلا بعدما عمت عليه النفس والمتأول يسوء تأويله إلا بعدما يخرج العلم من تلقاء نفسه مقاييسا وظنونا كمقاييس إبليس وظنونه …”[10].

إن “حظ النفس في المعصية ظاهر جلي وحظها في الطاعات باطن خفي ومداواة ما يخفى صعب علاجه ” -حسب حكمة لابن عطاء الله السكندري- إذ النفس من شأنها أبدا طلب الحظوظ والفرار من الحقوق فهي لا تسعى إلا في ذلك ولو في عملها في الطاعات فضلا عن المعاصي، ومن حاسب نفسه وراقب خواطره تبين له مصداق هذا، وقد تجد من النشاط واللذة في نوع من العبادة ما لا تجده في نوع آخر وإن كان هذا النوع الآخر أتم فضيلة منه . وما ذاك إلا من أجل أن حظها فيه أكثر من الآخر فأهل الخبرة والبصيرة يتهمون أنفسهم إذا ألفت بابا من أبواب العبادات لمعرفتهم بخدعها ومكايدها فيشوشون ذلك عليها ويتنقلون منه “[11].

ومن الصعوبة بمكان تحصيل هذا العلم على وجهه الأكمل كما يعترف بذلك الصوفية أنفسهم لأن أساسه عملي ويحتاج إلى زمن ومجاهدة في تحصيله، وهذا يمثل حربا ضروسا بين الإنسان ونوازعه النفسية الذميمة قد  يواجهها الإنسان كوسيلة ضرورية وفعالة لتخليص ذاته من الهلاك ومن التوغل في العلل والأمراض[12]. إذ أن الإنسان كما يمثل له الغزالي بمثابة مملكة يملكها العقل  بقواها وحواسها الظاهرة والباطنة، لكن النفس الأمارة بالسوء والتي عبر عنها بالشهوة والغضب تبقى العدو الذي ينازعه في مملكته، ولهذا فيكون دائما على أهبة الجهاد، وهو الجهاد الأكبر كما ورد في الحديث. وكذلك لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم :” أي الجهاد أفضل يا رسول الله ؟ فقال عليه السلام : جهادك هواك...” .

[1] ابنن عربي:الفتوحات المكية   ج1ص287

[2] نفس      ج1ص125

[3] نفس    ج2ص314

[4] الغزالي:إحياء علوم الدين    ج3ص55

[5] عبد الوهاب الشعراني:الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية    ص99

[6] السايح:السلوك عند الحكيم الترمذي   ص56

[7] أبو طالب المكي:قوت القلوب   ج1ص129

[8] ابن عباد النفزي:شرح الحكم     ج2ص53

[9] المحاسبي :آداب النفوس      ص63-64

[10] السايح:السلوك عند الحكيم الترمذي   ص62

[11] ابن عباد النفزي:شرح الحكم ج2ص4

[12] نفس                             ج2ص45


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.