في شوارع المدن والأسواق الشعبية، تتكرر مشاهد مروعة من المداهمات التي يقوم بها رجال السلطة ضد الباعة المتجولين. مشاهد تسلب الكرامة الإنسانية لهؤلاء الدراويش، الذين لجأوا إلى عرباتهم وسلعهم الصغيرة بحثًا عن قوت يومهم. مشاهد تعكس صراعًا يوميًا بين الحاجة الملحة للعيش الكريم وسلطة القانون التي يُساء أحيانًا تطبيقها.
يُعتبر الباعة المتجولون جزءًا لا يتجزأ من المشهد الاقتصادي والاجتماعي في المدن المغربية. ورغم عفويتهم وسعيهم البريء لتأمين لقمة عيش شريفة، يجدون أنفسهم في مواجهة متواصلة مع السلطات المحلية التي لا تكتفي بمطاردتهم بل تقوم بحجز عرباتهم ومصادرة سلعهم، بل وفي بعض الحالات، تُمارس عليهم العنف اللفظي والجسدي.
إن الاعتداء على الباعة المتجولين لا يقتصر فقط على الأضرار الاقتصادية التي تلحقهم، بل يمتد إلى تحطيم معنوياتهم ومساس كرامتهم. فهؤلاء الأشخاص ليسوا مجرمين ولا خارجين عن القانون، بل هم مواطنون يعيشون تحت وطأة الفقر وغياب البدائل الاقتصادية.
من جهة أخرى، تُبرر السلطات المحلية هذه التدخلات بمحاولة “تنظيم الفضاء العام” ومنع العشوائية. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل تُبرر هذه المبررات استخدام العنف وحجز ممتلكات هؤلاء الدراويش دون توفير بدائل تضمن لهم مصدر دخل يحفظ كرامتهم؟
إن غياب سياسات اجتماعية واقتصادية فعالة يجعل من هؤلاء الباعة المتجولين ضحايا لسياسات تعجز عن معالجة الأسباب الجذرية للمشكلة. فبدلًا من مطاردتهم وحجز ممتلكاتهم، ينبغي أن تُوجَّه الجهود نحو خلق فضاءات خاصة تُنظم نشاطهم أو تقديم دعم حكومي يمكنهم من العيش بكرامة.
ما يحدث مع الباعة المتجولين يعكس خللًا في العلاقة بين المواطن والسلطة. فبدلًا من أن تكون السلطة حامية لحقوق الناس، تتحول في هذه الحالة إلى مصدر قمع وإذلال. والحل لن يكون أبدًا في التصعيد، بل في الحوار والتفاهم، وفي ابتكار حلول تحفظ النظام العام دون المساس بالكرامة الإنسانية.
لقد آن الأوان لتغيير النظرة إلى هؤلاء الدراويش، فهم ليسوا عبئًا على المجتمع، بل ضحية لظروف اقتصادية واجتماعية قاسية. المطلوب اليوم ليس مطاردتهم، بل احتواؤهم. فهذا هو السبيل نحو مجتمع أكثر عدالة وإنسانية.
الباعة المتجولون: أزمة شاملة تحتاج إلى حلول عميقة
تعتبر معاناة الباعة المتجولين في المغرب جزءًا من مشهد أكبر يعكس الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها البلاد. هؤلاء الأشخاص الذين يُطلق عليهم في كثير من الأحيان “دراويش” ليسوا سوى عنوان آخر لواقع يعيشه ملايين المواطنين الذين يكافحون يوميًا من أجل تأمين لقمة العيش في ظل ارتفاع معدلات البطالة واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
الاعتداءات المتكررة: عنف مقنن أم غياب بدائل؟
إن مشاهد المداهمات التي تُنفذها السلطات، والتي تتضمن حجز السلع وتدمير العربات، تُظهر خللًا في الطريقة التي يتم بها التعامل مع هذه الفئة. فعندما تُصادر ممتلكات البائع المتجول، تُحرمه السلطات من مصدر رزقه الوحيد، دون التفكير في العواقب الإنسانية والاجتماعية التي تترتب على ذلك.
بل إن بعض الحالات تتجاوز حجز السلع إلى الاعتداء الجسدي واللفظي على الباعة، وهو أمر يثير تساؤلات حول مدى احترام الحقوق الإنسانية في هذه التدخلات. أليس من واجب السلطة أن تحمي المواطن بدلًا من إذلاله؟
المقاربة الأمنية: هل هي الحل؟
اللجوء إلى المقاربة الأمنية في التعامل مع قضية الباعة المتجولين يُظهر عجزًا واضحًا عن إيجاد حلول مستدامة لهذه الأزمة. فبدلًا من الاكتفاء بالقمع، كان على السلطات أن تعمل على دراسة الأسباب الجذرية لهذه الظاهرة، التي ترتبط بشكل وثيق بالفقر، غياب فرص العمل، والهجرة من القرى إلى المدن بحثًا عن حياة أفضل.
لكن هذه المقاربة لا تعالج أصل المشكلة؛ بل تزيد من تعقيدها. إذ إن الضغط المستمر على هؤلاء الباعة يدفعهم إلى العودة إلى الشوارع مرة أخرى، في دورة متكررة من القمع والمعاناة.
الفضاء العام: بين النظام وحق البقاء
لا شك أن الفضاء العام يحتاج إلى تنظيم، خاصة في المدن الكبرى التي تعاني من الاكتظاظ والفوضى. لكن السؤال هنا: هل يمكن تحقيق هذا التنظيم على حساب حقوق الناس في كسب عيشهم؟ وهل يمكن تجاهل أن الفضاء العام ملك للجميع، بما في ذلك أولئك الذين لا يملكون القدرة على استئجار محلات أو العمل في القطاع الرسمي؟
إن التوفيق بين حق الباعة في العمل وحاجة المدن إلى النظام لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال سياسات شاملة. فبدلًا من المطاردة العشوائية، يمكن التفكير في إنشاء أسواق نموذجية أو مساحات خاصة تستوعب هذه الأنشطة التجارية، مما يضمن التنظيم دون المساس بحقوق الأفراد.
المسؤولية المشتركة: الدولة والمجتمع
أزمة الباعة المتجولين ليست مسؤولية الدولة وحدها، بل هي مسؤولية مجتمعية أيضًا. فمن واجب المجتمع أن يتفهم ظروف هؤلاء الناس، وأن يتضامن معهم بدلًا من النظر إليهم بعين الاتهام. كما أن على الدولة أن تضع سياسات واضحة لدعم الفئات الهشة، من خلال تقديم قروض صغيرة، برامج تدريبية، أو فتح أبواب للعمل في القطاع الرسمي.
الحلول الممكنة: نحو رؤية شاملة
- تخصيص فضاءات منظمة: يمكن للسلطات المحلية أن تعمل على تخصيص أسواق أو فضاءات قانونية تُمكّن الباعة من ممارسة أنشطتهم دون إزعاج.
- دعم المشاريع الصغيرة: إطلاق برامج لدعم الباعة من خلال منح قروض بدون فوائد أو تقديم المعدات اللازمة لممارسة أنشطتهم بشكل قانوني.
- تأهيل الباعة للتكامل الاقتصادي: تقديم دورات تدريبية لهؤلاء الباعة بهدف إدماجهم في سوق العمل الرسمي.
- إصلاح العلاقة بين المواطن والسلطة: تعزيز التواصل بين السلطات المحلية والباعة المتجولين من خلال الحوار المستمر والعمل على إيجاد حلول توافقية.
ختامًا
لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق الاستقرار والتنمية دون أن يولي اهتمامًا خاصًا للفئات الأكثر هشاشة فيه. أزمة الباعة المتجولين ليست فقط مسألة اقتصادية أو تنظيمية، بل هي قضية إنسانية تعكس عمق الهوة بين المواطن والسلطة. الحل يبدأ من الاعتراف بإنسانية هؤلاء الدراويش، والانتقال من سياسات القمع إلى سياسات الاحتواء والدعم، مما يضمن حق الجميع في العيش بكرامة داخل وطنهم.
تحية سي التريكي المتحولون يقتاتون من عرق حبيتهم وهذه المهنة احسن من السرقة