ربما يأتي اليوم الذي يعن فيه لباحث ما، أن يدرس الدور السلبي الذي لعبته الألفاظ في حياتنا العقلية العربية. ولسوف يكتشف حينذاك أننا – دفعنا. وما زلنا ندفع – ثمنا باهظا لذلك السحر الخفي الذي تملكنا أكثر بكثير مما ندفعه في مشاريع التسليح، أو حتى مشاريع التنمية العربية !
في الماضي عشنا على وهم مخدر. هو أننا خير أمة أخرجت للناس، فلما أفقنا بعد طول رقاد. واكتشفنا زيف قناعاتنا الذاتية التي لم يقتنع بها أحد. وأدركنا أن العالم تغير. وأن العلم، والعلم وحده. صار أداة التغيير الحقيقية في هذا العالم. صحنا صيحة الفرح، ها قد وجدناها إذن !… الدولة “العصرية” هي طوق النجاة من الطوفان الذي يحيط بنا… ثم عاودنا السحر القديم على الفور، فطفقنا نبحث في المرادفات من الألفاظ. والمؤتلفات من المعاني، ونمارس هوايتنا في فك رموز الكلمات المتقاطعة، وكان الأمر في النهاية هو قضية ذكاء لغوي ! وليتنا انتهينا إلى شيء حاسم على الرغم من عشرات الدراسات والكتب والمؤتمرات التي تبحث في التعصير والتحديث والتكنولوجيا والإيديولوجيا والتراث والأصالة. وغيرها، وغيرها من المفاهيم والمصطلحات التي دخلت قاموسنا اللغوي. ولم تدخل بعد سلوكنا لا على المستوى الاجتماعي ولا على المستوى الفردي. وكأننا أحفاد كهان بيزنطة القدامى، الذين لبثوا يناقشون ويناقشون، حتى قطع عليهم العدو بطرقاته على أبوابهم سحر النقاش !
أهو جهل أم عجز ؟ أهو قصور أم سوء نية ؟ النتيجة بصرف النظر عن الأسباب كلها تبدو في النهاية واحدة. وهي أننا لسنا متخلفين فحسب. بل ونساعد بأنفسنا على زيادة تخلفنا. فمن المعروف أن أحد معايير التقدم في عالم اليوم، هو معدل النمو في الثروة العلمية، أي في أعداد العلماء والمهندسين والأطباء والباحثين في فروع المعرفة الإنسانية المتعددة.
وهكذا، يقارنون اليوم بين دولة ودولة، ذلك لأن هؤلاء العلماء والباحثين والمثقفين على اختلاف مجالاتهم. هم الذين يصنعون- في ظل شروط معينة – الثروة الاقتصادية، والثروة الاجتماعية. والثروة الحضارية…أيضا.
وما أعجب المفارقة التاريخية ! إن الجسم العربي الذي كان قادرا فيما مضى على امتصاص العناصر “الأجنبية”. وكان بوسعه دائما أن يهضمها ويتمثلها ويصنع في تفاعلها مع عناصره المحلية نسيجه القوي، وشبابه العقلي المتوقد. بات اليوم “ينزف” دمه الأصيل نفسه، على أرصفة أوربا وأمريكا. من دون أن يتوصل حتى الآن إلى وسيلة يوقف هذا السيل المتدفق من دمه بغير حساب. بل إن الأمر يوما بعد يوم صار لا يعبر عن نفسه في الصيغة الشائعة الكثيرة التداول وهي “هجرة العقول العربية”. فهذه الصيغة صارت غير دقيقة ولا كافية، وأقرب منها إلى الواقع القائم أن نقول “تهجير العقول العربية”، ففي مجال عربي” طارد”. وفي مواجهة مجالات أخرى “جاذبة، تصبح حقيقة المسألة، تهجيرا على المستوى الموضوعي، وإن اتخذ شكل الهجرة الذاتية !
أخطر ما في الأمر أن الولايات المتحدة الأميركية والصهيونية العالمية، متضامنتين ومتحالفتين. أصبحتا تخططان منذ عقود من الزمن، ليس فقط لاستيعاب العلماء والمثقفين العرب عن طريق استنزافهم من الأقطار العربية المختلفة واحتوائهم في البيئة الأمريكية والأوربية، وإنما استيعابهم واحتوائهم حتى وإن لم يغادروا حدود أوطانهم. وما يجري في الدول العربية الآن يعبر بوضوح عن هذه الحقيقة التي تتجسد أمام عيوننا كل يوم، إن أحدا لم يلتفت – لسوء الحظ. إلى المشروعات الأمريكية التي تنهض بها الآن مؤسسات تتخذ من الدراسات العلمية والفكرية. والبحوث الاقتصادية والاجتماعية. ستارا براقا يغشي أبصار الباحثين والمثقفين العرب- بوعي أو من دون وعي، لخدمة أهدافها المغرضة. وبعض هذه المؤسسات إن لم يكن كلها أو في القليل معظمها. مشبوهة ومفضوحة، ومع ذلك. فإن الأمر لا يهم، ففي النهاية ثمة عشرات التبريرات التي تقدم من جانب المشتركين في هذه المشروعات من العرب والمصرين أنفسهم لانخراطهم فيها، ليس أهمها الأجور العالية التي يتقاضونها. – وإن كانت بالطبع على جانب لا يستهان به من الأهمية – وإنما على رأسها وفي مقدمتها غياب “البديل العربي” القادر على استيعابهم وتوظيف طاقاتهم. وجني ثمارهم. بالشروط العلمية والاجتماعية والنفسية الغربية نفسها. فحتى مراكز البحث المهمة في مشاكل الواقع العربي نفسه، بعناصره ومكوناته كلها أصبحت موجودة في الغرب، في أمريكا وأوربا- بل وفوق الأرض المحتلة داخل إسرائيل- وليست موجودة فوق أرضنا العربية ! أليست هذه في حد ذاتها “كارثة” حقيقية، لها بعدها السياسي والحضاري المؤثر لسنوات طويلة مقبلة ؟ كيف يمكننا أن نتحدث عن شعار النهضة العربية ونحن لا نقدم لخيرة علمائنا ومفكرينا ومثقفينا سوى الفتات والبيئة القاحلة وعيون الشرطة ؟ وهل ترانا يمكن أن نبني هذه النهضة في كان. ونيس، ولاس فيجاس، أو داخل الخزائن السويسرية السرية ؟ وما قيمة “استيراد” عشرات من المفكرين والمثقفين الغربيين إلى بلداننا ليناقشوا أفكارنا ونحن أعجز في حالات متعددة من أن نحل مشاكل قرية محدودة أو قبيلة صغيرة ؟
ذكر العالم الهندي الكبير هومي بهابا، مؤسس الجهاز العلمي والتكنولوجي في الهند، أن الرئيس الراحل جواهر لال نهرو قال له في معرض حديث عن المهاجرين من العلماء الهنود : لا يمكن أن تعالج المشكلة بأن نطلب إلى الدول المتقدمة أن توصد أبوابها في وجوه العلماء الذين يريدون الهجرة إليها، لأنك بذلك تقيم سورا وحاجزا بين البلاد المتخلفة والبلاد المتقدمة، إضراره بالأولى أكبر كثيرا من تأثيره في الثانية. ولا يمكن أن تعالج المشكلة بأن تناشد في هؤلاء العلماء والمهندسين والأطباء والأساتذة،”ضميرهم الوطني” لأنني لا أتصور أن أحدا منهم هاجر من الهند لأنه خائن، ولا أتصور أن أحدا منهم سيعود إلى الهند تكفيرا عن خيانته “!
وعندما أعاد نهرو طرح المشكلة، بعدما صاغها صياغة صحيحة، قائلا لخلاصة علماء الهند الذين اجتمع بهم لهذا الغرض،”لن نسأل لماذا تهاجر العقول من الهند ؟ بل يجب أن نسأل لماذا لا تبقى العقول في الهند، وما هي الوسائل التي يمكن أن تبقى بها ؟”. قدم له العلماء مقترحاتهم وكان على رأسها ، “إن أقسى ما يحس به العالم أو المثقف أو الخبير أن لديه طاقة لا تستغل، أو خبرة لا تستثمر، ومعنى هذا أن علينا أن نقيم من المشاريع ما يستوعب هؤلاء العلماء والخبراء، لا تستوعبهم عددا فحسب، بل طاقة وفكرا وإنتاجا، إن العالم في قرارة نفسه ليس موظفا كل ما يطلبه مكتبا ومرتبا وأوقات محددة للعمل، إنه أشبه بالفنان يستغرقه علمه الوقت كله. وفي حاجة إلى أن يحس دائما بأنه يبني وينتج، وأمامه المزيد من البناء والإنتاج”. أليس هذا هو بداية الطريق لمحاربة الاحتلال الفكري الجديد؟.
والله الموفق
29/12/2010