يومان حافلان دخلا تاريخ علم الفلك، وقلبا ظهرا على عقب كثيرا من المعطيات والنظريات الرياضية فيما يتعلق بكوكب زحل وكشفا بعض أسرار المجموعة الشمسية، وزادا من ذهول علماء الفلك، وحيرتهم… هذان اليومان هما الثاني عشر والثالث عشر من نوفمبر1980 عندما أخذت سفينة استطلاع الفضاء الأمريكية فويجر في بث آلاف الصور والمعلومات إلى الأرض– وقبل أسبوع واحد من بدء البث، أي من بلوغ فوجر نقطة الاقتراب المحددة من كوكب زحل (على بعد 78 ألف ميل أي 130 ألف كيلومتر) اجتمع فريق من كبار علماء الفلك لمناقشة أحدث الاكتشافات في نظام المجموعة الشمسية – وما أن أعاد هؤلاء العلماء إلى مراصدهم ومختبراتهم حتى استبد بهم الذهول والاستغراب لاكتشافات فويجر عن كوكب زحل وحلقاته الشهيرة.
ذلك أنه بعد نحو ثلاثمائة وسبعين عاما من قيام جاليليو بمشاهدة الحلقات المحيطة بكوكب زحل تمكن الفلكيون وعلماء الفضاء وبل ملايين المتفرجين على البرامج التلفزيونية في سائر أنحاء العالم من مشاهدة منظر فريد لكوكب زحل وهو من أكبر كواكب المجموعة الشمسية حجما وأشدها غموضا وبذلك تمكنت سفينة الفضاء الأمريكية فويجر – بعد رحلة دامت ثمانية وثلاثين شهرا من تحقيق حلم كاد يكون تحقيقه مستحيلا، لم طالما ساور خيال الفنانين والعلماء أجيالا طويلة – وكانت فويجر عند ذاك على بعد 1500 مليون كيلومتر من سطح الأرض ، وعلى مسافة 130 ألف كيلومتر من الكتلة الغازية الضخمة التي يتألف منها الكوكب واندفعت سفينة الفضاء بعد ذلك مخترقة النطاق الواقع بين الكوكب ذاته وبين حلقاته الشهيرة وقد أذهلت الصور التي بثتها السفينة فويجر وتبلغ الآلاف، أذهلت علماء الفلك وبالرغم من أن دراستها بدقة سوف تستغرق أعواما إلا أن ما كشفت عنه النقاب بالفعل ما يزال يدهش العلماء إلى يومنا هذا فقد ثبت مثلا معلومات دقيقة عن حلقات زحل وعن الأقمار الخمسة عشر التابعة في المجموعة الشمسية، بل أن فويجر اكتشفت ثلاثة أقمار جديدة تماما لم تكن معروفة من قبل كما بثت فويجر عديدا من المعلومات والقياسات الخاصة بالسطح الغائم للكوكب – ذلك أن كوكب زحل أكبر من حجم كوكبنا الأرض بثمانمائة مرة وهو مثل كوكب المشتري يتألف في مجموعه تقريبا من الغازات ومعظمها مزيج من غازي الهيدروجين والهيليوم وهو في ذلك شبيه بالغازات التي تتألف منها الشمس ولكن غازات زحل على درجة بالغة من البرودة وذكر مؤخرا أنها في درجة 180 مئوية تحت الصفر وإذا كان له قلب يتألف من المواد الصلبة على الإطلاق فلابد أن تكون هذه المواد الصلبة غازات مركزة لا مواد حديدية كالتي تتألف منها الكواكب الداخلية في المجموعة الشمسية.
وقد هيأت لنا رحلة سفينة الفضاء فويجر ولأول مرة مناظر مقربة جدا من عدة كواكب وأقمار لم يكن يعرف عنها علماء الفلك سوى أسمائها نظرا لصغر حجمها، إذا ما نظر إليها بالتلسكوب مباشرة من على سطح الأرض والقمر الوحيد الذي كان لدى علماء الفلك بعض العلم به هو القمر الضخم تيتان أو الجبار، وهو يساوي في حجمه الكبير حجم الكوكب عطارد وكان من المؤسف ظهوره في الصور الفوتوغرافية وهو ملتف في عباءة كثيفة من الغيوم وقد ظن العلماء أولا أن جوه يحتوي على نسبة من الغازات العضوية مثل الأستيلين والإيثين والميثين مما دفعهم إلى الحدس بأن العناصر التي يتألف منها تيتان قد تصبح مناسبة لتكوين أنواع بدائية جدا من الكائنات الحية – ولكن الدراسات التي أعقبت ذلك كشفت عن حقائق مريعة إلى حد كبير إذ بينت القمر تيتان وكأنه بحر هائل من النيتروجين السائل تهطل عليه باستمرار قطرات النيتروجين، وأن درجات الحرارة على سطحه تقل عن 200 درجة مئوية تحت الصفر، مما يعني أن أي كائن حي أو أي جماد يحتوي جسمه على شيء من الرطوبة يقترب من تيتان سوف يتقلص ويذوي ويصبح هيكلا في ثوان معدودة هذا لو افترضنا أن للقمر تيتان سطحا صلبا وانكب علماء الفلك على دراسة صور تيتان التفصيلية وصور أقمار أخرى في المجموعة الشمسية مثل ريا، وايابيتس، وديون، وتيتس لم يعرف عنها الكثير من قبل، وعلى متن ما يتسم به سطح كل منها من جبال هائلة وحفر عميقة غائرة.
ولكن ذهول العلماء تركز أعظم ما تركز على حلقات زحل فقد اتضح لهم حتى على مسافة مليون ميل خطأ الاعتقاد الذي ساد من قبل بوجود ست حلقات فحسب وسرعان ما علموا أن الحلقات التي نراها من على سطح الأرض إنما هي في الواقع مئات ومئات من الحلقات المتقاطعة بدت للمشاهدين وكأنها الحفر الدقيقة التي تظهر على هيئة خطوط دائرية كما بدت في الصور بقع مظلمة مشعة تبدو وكأنها أصابع سوداء تدور في عجلة هائلة ولم يتوصل العلماء إلى تفسير محدد لهذه الظاهرة. والأغرب من ذلك بل ما يدعو للذهول هو ظهور حلقتين ضيقتين جدا بالقرب من الحافة الخارجية لنظام المجموعة الشمسية بأكملها. والغريب أن هاتين الحلقتين ليستا دائريتين تماما أو حتى منفصلتين بل أنهما تبدوان ملتويتين أو مجدولتين كضفيرة أو كجدائل حبل، وعندما شاهدهما الدكتور براد فورد سمث رئيس فريق العلماء المتابعين لفويجرا اندفع قائلا: ” إن وجودهما في حد ذاته يذهل العقل”. ولم يتقدم أحد حتى الآن بتفسير مقبول لهذه الظاهرة الغريبة: ظاهرة وجود حلقتين تبدوان وكأنهما تدوران ولكنهما في نفس الوقت ثابتتان مستقرتان تماما.
ذلك أن الظاهرة تتحدى القوانين والنظريات التقليدية في الطبيعيات الديناميكية وكما قال عالم الفلك كارل سلجان ” أن قوانين الطبيعيات ليست هي التي تفتقر إلى شيء ولكن العقل البشري لم يتوصل بعد إلى تفسير لمثل هذه الظاهرة “. ولذا سيظل علماء الفلك على أحر من الجمر في انتظار فرصة أخرى لمشاهدة تلك الظاهرة العجيبة عن كثب.
ويعكف علماء الفلك الآن على تحليل جميع المعلومات والصور الفوتوغرافية المرسلة لدراسة المجالات المغناطيسية المتباينة لكل كوكب في المجموعة الشمسية على حدة والعناصر التي تتألف منها الرياح والمجموعة الشمسية والغازات في أجواء الكواكب وخاصة جوتيتان، والتكوينات الغريبة في حلقات زحل والخداع البصري فيما يتعلق أيضا بخواص الكوكب ذاته – ومهما بدت تلك الصور لنا مذهلة على شاشات التلفزيون فإنها تمثل مجرد جزء ضئيل من حصيلة فويجر، ومجرد ملاحظات بالعين المجردة فحسب ولا يكاد يمضي علينا يوم الآن حتى تطلع علينا المجلات العلمية وهي حافلة بالجديد في اكتشافات زحل وتيتان وغيرهما من كواكب المجموعة الشمسية. وقد أسفرت آخر قياسات فويجر عن أن قطر زحل يبلغ ثلاثة آلاف وسبعين ميلا مما يجعله ثاني أكبر الكواكب في المجموعة الشمسية، ويأتي في المرحلة الثانية بعد جانميد، أحد أقمار المشتري. ودلت الأبحاث الأخيرة على أن جو سطح تيتان أقل برودة مما كان معتقدا كما أن سطحه لا تغطيه محيطات من غاز النيتروجين السائل. وأهم اكتشاف حتى الآن هو وجود حاجة ملحة إلى نظريات رياضية وديناميكية جديدة شاملة تفسر ظواهر زحل وتأخذ في الحسبان القوى الميكانيكية والكهربائية التي يثيرها مجاله المغناطيسي والمجالات المغناطيسية المجاورة.
هذا قليل من الكثير من المعلومات التي بعثت بها سفينة الفضاء فويجر. والجدير بالذكر أن السفينة فويجر انطلقت في آفاق الفضاء بغير ما هدف بعد أن خرجت من نطاق المجموعة الشمسية وبعد أن حققت للعلوم الحديثة ولعلم الفلك بالذات فتحا تاريخيا فريدا وألقت بعض الضوء على هذا الكون الرائع الغريب.
والله الموفق/ 26/10/2008