أبو محجن الثقفي الفارس التائب - بريس تطوان - أخبار تطوان

أبو محجن الثقفي الفارس التائب

“أبو محجن الثقفي” شاعر من الشعراء المخضرمين الذين عرفوا بالشعر في الجاهلية والإسلام، ومن يقرأ ديوان هذا الشاعر الفارس يجد صورة بارزة يرسمها شعره على الرغم من قلته من حيث الكم. إنها صورة الفارس التائب توبة التائبين الذين يصفهم الله عز وجل في كتابه الكريم: إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات “. صدق الله العظيم.

عرض أبو محجن للمآثم، وارتكب المحظورات من الخطايا ثم مر بمحنة نفسية خرج منها عاقدا العزم على التخلص من المآثم وكفر عن ذنوبه معلنا توبته الصادقة في سبيل الله، فأثابه الله عز وجل وجعل في نهايته في ساحة القتال في سبيل الله فلقى مصيره مع الشهداء.

هذا الفارس كان منهمكا بالشراب، لا يكاد يقلع عنه ولا يردعه حد، ولا لومة لائم. وجلده عمر بن الخطاب في الخمر مرارا. وكان في قلبه شيء من الحب والشوق إلى الجمال فهوى مرة امرأة من الأنصار يقال لها شمس، فحاول النظر إليها فلم يقدر فآجر نفسه من بناء يبني بيتا بجانب بيتها، فأشرف عليها من كوة فأنشد :

ولقد نظرت إلى الشموس ودونها       ***     حرج من الرحمن غير قلي

فاستعدى زوجها عمر بن الخطاب فنفاه عمر إلى جزيرة في البحر وبعث معه رجلا يقال له أبو جهراء. فهرب منه ولحق بسعد ابن أبي وقاص بالقادسية وهو محارب للفرس.

ورجع أبو جهراء إلى عمر وأخبره بما جرى فكتب عمر إلى سعد بحبس أبي محجن فحبسه. فلما كان يوم القادسية رأى أبو محجن القوم يقتتلون، فأرسل إلى امرأة سعد يقول لها :

– إن خليت سبيلي وحملتني على الفرس ودفعت إلى سلاحا لأكونن أول من يرجع إليك إلا أن أقتل.فوثب على فرس لسعد يقال لها البلقاء ثم أخذ الرمح وانطلق حتى أتى الناس فجعل لا يحمل في ناحيته إلا هزمهم، وجعل الناس يقولون (هذا ملك) وسعد ينظر فجعل يقول : ” الضبر ضبر البلقاء، والطعن طعن أبي محجن، وأبو محجن في القيد”.

وعاد سعد إلى امرأته فأخبرته بالذي كان من أمر أبي محجن فقال: ” لا والله لا أضرب رجلا أبلى في المسلمين ما أبلى “. فخلى سبيله فقال أبو محجن: ” كنت أشربها (يعني الخمر) إذ كان الحد يقام علي وأطهر منها. فأما إذ بهرجتني فلا والله لا أشربها أبدا”.

وكانت نهايته من بعد في ساحة القتال في سبيل الله في أرمينية شهيدا مع الصديقين.

إن حياة هذا الفارس الشاعر حياة إنسان عاش سادرا في اللهو والشراب غائبا عن الرشد بما أغواه الشيطان وأضله من استغراق في الخمر ومآثمها. ولم يعبأ بإقامة الحد عليه إلى أن حجز في السجن وشاهد ما شاهد من جهاد المسلمين في القادسية فتحركت في نفسه مشاعر الإيمان بالله، وتيقظ ضميره وثاب إلى رشده، فانتصر على الشيطان وانطلق إلى عالم المجاهدين في سبيل الله ليعود من بعد وقد خلصت نفسه من الآثام ويضرع إلى الله جل شأنه أن يجعله من التائبين المتطهرين.

ومن يقرأ شعر أبي محجن يجده موزعا على موضوعين أساسيين بالنسبة لتصوير حياته، الأول : عبثه ولهوه وإدمانه الشراب. والثاني: التوبة الخالصة لوجه الله تعالى.

وهو في كلا الموضوعين يرسم صورة لمسلكه في الحياة والقسم الأول من شعره يقترب فيه من شعراء الجاهلية ممن لهجوا بالحديث عن الخمر، مثل الأعشى، أنظر إلى قوله مصورا إمعانه في شرب الخمر على الرغم من علمه بتحريمها :

ألا فاسقني يا صاح، خمرا فإنني                 ***     بما أنزل الرحمن  في الخمر عالم

وجد لي بها صرفا لأزداد مأثـما                  ***     ففي شــربهـا صرفا تتـــم المـــآثم

وانظر إليه يتمنى آنذاك أن يكون مثواه الأخير في كرمة، ترم عظامه في قبره، الخمر المصفاة المعتقة، فهو يبالغ في لذة الشراب مبالغة شديدة، تدل على تمكن هذه العادة السيئة من نفسه يقول :

إذا مت فأدفني إلى أصل كرمة           ***     تروى عظامي في التراب عروقهـا

ولا تدفني بالفــــــــلاة فإنــنـــي                  ***     أخــاف إذا ما مت أن لا أذوقــهـــا

أباكرها عند الشــــروق وتــارة         ***     يعاجـلـني بعـد العشى عبوقـهـــــا

وللكأس والصهبا خط منـعـــم           ***     فمن حقها أن لا تضـاع حـقوقــهـا

وشاء الله أن يشرح صدره للتوبة الخالصة ويترك هذه الآثام بعد أن رأى المجاهدين المسلمين يخوضون حربا مقدسة من أجل إعلاء كلمة الله وهو قاعد لا حراك له في سجنه وتزداد حسرته حين يرى المسلمين لا يتقدمون في قتالهم لأن العدو عنيد مكابر فهزه الموقف هزا فإذا به يأخذ على نفسه عهدا مع الله أن ينصر جيش المسلمين فهو أهل لهذه الحرب. فإن مات في ساحة الجهاد فإنه يكون قد حقق غاية يصبو إليها أما إن رجع سالما فلا عودة إلى حوانيت الخمر، يقول في مثل هذه المعاني وهو مكبل بالقيود في سجنه :

كفى حزنا أن تطعن الخيل بالـقنا                 ***     وأصبح مشـدودا عــلي وثاقيا

إذا قمت عناني الحديد وأغـلقت          ***     مصارع دوني قد تصم المناديا

وقد كنت ذا مال كثير وإخــوة           ***     فأصبحت منهـم واحدا لا أخاليا

فلله دري يـوم أترك موثقــا              ***     وتذهل عنــي أسرتي ورجالـــيا

هلم سلاحـي، لا أبا لك،  إنني            ***     أرى الحرب لا تـزداد إلا تماديا

فلله عهــد لا أخيــس بعهده             ***     لئن فرجت أن لا أزور الـحوانيا

فإن مت كانت حاجة قد قضيتها                  ***     وخلفت سعدا وحـده والأمانيــــا

ومضى من بعد يعلن توبته خالصة لوجه الله، يذم الخمر ويلوم نفسه على سابق عهده بإدمانها يقول:

ألم ترني ودعت ما كنت أشـرب                  ***     من الخمر إذ رأسي لك الخير أشيب

وقال لي الندمان لـما تــــــركتها                 ***     الجـــــد هـــــذا منــك أم أنـت تلعب ؟

وقالوا عجيب تركـك اليوم قهوة                  ***         كــــــأنــــي مجنون وجلدي أجــــرب

سأتركهـــــــــــا لله، ثم أذمهـــا          ***     وأهــــــجرها في بيتها حيث تشرب

وهو يعلن في شعره أنه يتوب إلى الله التواب الرحيم الغافر للذنب وانه قطع على نفسه عهدا ألا يعود إلى هذا الإثم مرة ثانية يشهد على ذلك رب العرش العظيم، فهو يصدر عن عزم صادق على التوبة الخالصة يقول :

أتوب إلى الله الـــــــــــــــرحيم، فإنه    ***     غفور لذنب المرء ما لـــــم يعاود

ولست إلى الصهباء ما عشت عائدا     ***     ولا تابعــــا قـــــول السفيه المعاند

وكيف وقد أعطــــــيت ربي مواثقا      ***     أعود لها والله ذو العرش شاهدي

سأتركها مذمومـــــــــــة لا أذوقـهـا    ***     وإن رغمت فيها أنوف حواســدي

ثم هو يتحدث عنها حديثا يبين رذائلها ومضارها ويصف شاربها بالسفه إذ انه لا دين له يستحل المحرومات ثم يكفي أن يرى بين القوم غائبا عن وعيه لا عقل له يقول:

يقول أناس : إشرب الخمـر إنها                  ***     إذا القوم نالوها أصابـوا الغنــائمــا

فقلت لهم : جهلا كذبتم ألـم تروا                 ***     أخاها سفيها بعدمــا كان حالمـــــا

إذا شرب المرء اللبيب مدامــة           ***     نفى الدين عنه واستحل المحارمــا

وأضحى وأمسى مستخفا مهيما                  ***     وحسبك عارا أن ترى المرء هائما

فنحن هنا أمام شاعر صادق في توبته وحافظ على عهده، فهو شاعر فارس تائب، عبر بصدق عن توبته تعبيرا لم نعهده في الشعر الجاهلي من قبل، أنظر إلى مثل قوله :

رأيت الخمر صالحة، وفيهـا             ***     خصال تفسد الرجــل الحليما

فلا والله اشربها صحيحـــــا              ***     ولا أشفــى بها أبـــــدا سقيما

ولا أعطي بها ثمنا حيــاتــي             ***     ولا أدعو لــها أبــــدا نـديـما

فإن الخمر تفضح شاربيهــا             ***     وتجنبهم بها الأمر العظيـــما

والله الموفق/26/10/2008


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.