الفوضى الخلاقة واستراتيجيات الهيمنة في العالم العربي - بريس تطوان - أخبار تطوان

الفوضى الخلاقة واستراتيجيات الهيمنة في العالم العربي

 
 

الفوضى الخلاقة واستراتيجيات الهيمنة في العالم العربي
 
يمثل مصطلح الفوضى الخلاقة أحد أهم المفاتيح التي أنتجها العقل الاستراتيجي الأميركي في التعامل مع قضايا العالم العربي حيث تمت صياغة هذا المصطلح بعناية فائقة من قبل النخب الأكاديمية وصناع السياسة في الولايات المتحدة، فعلى خلاف السائد في المجال التداولي العربي لمفهوم الفوضى المثقل بدلالات سلبية من أبرزها عدم الاستقرار أضيف إليه مصطلح آخر يتمتع بالإيجابية وهو الخلق أو البناء، ولا يخفى على أحد خبث المقاصد الكامنة في صلب مصطلح “الفوضى الخلاقة” بغرض التضليل والتمويه على الرأي العام العربي والعالمي.
يستند الأساس الأيديولوجي النظري لسيرورات الفوضى الخلاقة تاريخيا إلى الثورة الفرنسية باعتبارها مرجعا قابلا للدرس والمقارنة بشعاراتها المعروفة الحرية والعدالة والمساواة، وعلى الرغم من نبل المنطلقات النظرية للثورة الفرنسية وإيجابياتها إلا أنها ولدت آثارا جانبية ضارة تمثلت بسيطرة الرعاع من العامة التي حولت الأوضاع إلى فوضى عارمة تفتقر إلى التنظيم في ظل غياب مرجعيات فكرية وسياسية ساهمت في تآكل الثورة وكان من نتائجها عودة الملكية إلى فرنسا ونمو النزعة الشوفينية الفرنسية التي أرادت تصدير الفوضى الثورية إلى دول أوروبا دون الالتفات إلى الخصوصيات المكونة لهذه الدول.
 
حاولت الولايات المتحدة الأميركية استثمار حالة الفوضى تاريخيا في عدة أماكن من العالم كما فعلت في إيران أيام حكم مصدق وقد نجحت حينها بإعادة الشاه إلى سدة الحكم الأمر التي فشلت فيه عقب اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979 .
 
وانتهجت استراتيجية فوضى الاحتواء المزدوج في التعامل مع الثورة أثمر عن قيام الحرب العراقية الإيرانية، وعقب انهيار جدار برلين وسقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفييتي اعتمدت إستراتيجية الفوضى البناءة في التعامل مع الجمهوريات المستقلة، وتعتبر رومانيا نموذجا مثاليا لتفجير الفوضى في بلدان أخرى، وبالرجوع إلى المظاهرات التي عمت جورجيا وأوكرانيا كان العنصر الحاسم في نجاح المظاهرات هو التهديد بالقوة من قبل الولايات المتحدة وذلك بعد تحول السياسة الخارجية الأميركية من الاحتواء المزدوج أيام الحرب الباردة إلى إستراتيجية أمركة العالم بالقوة والعمل على تغيير الأنظمة والجغرافيا عن طريق الفوضى الخلاقة، ولا مانع من اعتماد الاحتلال المباشر إذا لزم الأمر في ظل غياب استيراجيات الردع، وقد أفرزت المتغيرات البنيوية للواقع الدولي نمو وازدهار العولمة الأميركية بحيث أصبح القيام بواجبات الأمركة من صميم مهمات رؤساء الولايات المتحدة، ويعد الرئيس جورج بوش الابن الذي يعاني من وهم كونه المسيح المخلص الأكثر تطرفا في فرض سياسات الأمركة من خلال إطلاقه الفوضى الخلاقة في مختلف أنحاء العالم، وقد تأثر بوش بعدد من الكتابات التي تؤسس للفكر السياسي المنظم للفوضى الخلاقة واعترف بأن كتاب “قضية الديمقراطية يمثل الخريطة الجينية لرئاسته وهو من تأليف المنشق السوفييتي المهاجر إلى إسرائيل والذي شغل منصبا وزاريا في حكومة شارون ناتان شارانسكي، وتتلخص رؤية شارانسكي باعتبار الإسلام حركة إرهابية لا تهدد إسرائيل فقط وإنما العالم الغربي بأكمله، ويرى أن استئصال الإرهاب لا يتم باستخدام القوة وتجفيف المنابع فقط وإنما بمعالجة الأسباب العميقة للإرهاب التي تنبع من سياسات الأنظمة العربية الاستبدادية والفاسدة وثقافة الكراهية التي تنشرها، ويتفق شارانسكي بهذا الطرح مع الأطروحة الشهيرة لهانتنغتون التي تنص على أن الإسلام عدو حضاري للغرب.
وتمثل كتابات اليوت كوهين أحد المصادر المهمة لنظرية الفوضى الخلاقة وخصوصا كتابه “القيادة العليا، الجيش ورجال الدولة والزعامة في زمن الحرب” ويرى كوهين أن الحملة على الإرهاب هي الحرب العالمية الرابعة باعتبار أن الحرب الباردة هي الثالثة، ويؤكد بأن على الولايات المتحدة أن تنتصر في الحرب على الإسلام الأصولي.
ومن المساهمات الرئيسية في صياغة نظرية الفوضى الخلاقة ما قدمته المراكز البحثية الكبرى في الولايات المتحدة وعلى رأسها مؤسسة “أميركان انتربرايز” للدراسات وتعتبر كتابات راوول مارك غيريشت وهو منظر المحافظين الجدد والمختص في الشأن العراقي والشيعة أبرز من يمثل هذا المركز، ويؤكد غيريشت أن إدارة الرئيس بوش بلورت مشروع “الشرق الأوسط الكبير” بالاعتماد جزئيا على أبحاث مؤرخين نافذين أمثال برنارد لويس من جامعة برنستون وفؤاد عجمي من جامعة جونز هوبكنز، ومن المعروف أن لويس أحد المناصرين لإسرائيل وكان قد أعلن عقب حرب الخليج الثانية عام 1991 عن موت العالم العربي ككيان سياسي واقترح استخدام مصطلح “الشرق الأوسط” بدلا من “العالم العربي”، وتقوم مؤسسة “واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” بدور لا يقل أهمية عن المؤسسة السابقة في صياغة نظرية الفوضى الخلاقة، ويمثل روبرت ساتلوف المدير التنفيذي المعروف في المؤسسة أحد أقطاب هذه النظرية، وهو من أشد المعجبين بأفكار برنارد لويس ولا يفتأ يردد آراءه المتعلقة بالعالم العربي، وكان قد اقترح إقصاء مصطلحي العالم العربي والإسلامي من القاموس الديبلوماسي الأميركي وطالب بالتعامل مع العالم العربي من خلال مقاربة خاصة بكل بلد على حدة ومحاربة الأصولية الإسلامية بلا هوادة والتي تسعى برأيه إلى إلغاء الحدود الجغرافية والطبقية. أما فؤاد عجمي وهو من أنصار الليكود والمحافظين الجدد فيعتبر الناطق الرئيسي للرؤية الطوائفية للواقع الاجتماعي والسياسي في العالم العربي، وتحظى رؤيته بقبول واسع الانتشار في صفوف الإدارة الأميركية ويمارس تحريضا متطرفا في مجمل القضايا المتعلقة بالعالم العربي والإسلامي.
وتمثل الأطروحة الرئيسية لنظرية الفوضى الخلاقة على اعتبار الاستقرار في العالم العربي عائقا أساسيا أمام تقدم مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ولذلك لا بد من اعتماد سلسلة من التدابير والإجراءات تضمن تحقيق رؤيتها التي تطمح إلى السيطرة والهيمنة على العالم العربي الذي يمتاز بحسب النظرية بأنه عالم عقائدي وغني بالنفط الأمر الذي يشكل تهديدا مباشرا لمصالح الولايات المتحدة، وينادي أقطاب نظرية الفوضى الخلاقة باستخدام القوة العسكرية لتغيير الأنظمة كما حدث في أفغانستان والعراق، وتبني سياسة التهديد بالقوة التي تساهم في تفجير الأمن الداخلي للعالم العربي وتشجيع وتأجيج المشاعر الطائفية وتوظيفها في خلق الفوضى كما هو الحال في التعامل مع الوضع اللبناني والسوري والعراقي.
 
طارق لبريس تطوان
[email protected]


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.