عِلـِـــيّـــة القــــــــوم - بريس تطوان - أخبار تطوان

عِلـِـــيّـــة القــــــــوم

عِلـِـــيّـــة القــــــــوم

 

أسارع – قبل أن يتهمني القارئ بالرجعية – فأقول إنني لا أعني بـ “العِليّة” الفئة الحاكمة. أو أصحاب المال والمركز الاجتماعي، وإنما أعني بها أفرادا – لا طبقة – يتصفون بصفات لا يستطيع أن يبلغها سِفْلة الناس لمجرد حصولهم على الثراء أو القوة أو الشهرة.

قد يصل أحد السفلة إلى أعلى المناصب، وقد يكون الثراء بسبب تجارة وضيعة، وقد يكون الزعيم ممثلا للدهاء والغوغاء، ولكن هذا لن يجعل منهم “عِلِيّة” أو صفوة، وإنما سيجعل من الأمة أمة بائسة، ومن الحياة حياة لا تحتمل.

فإن لم تكن صفات”العِليّة” هي امتلاك الثروة أو النفوذ أو المركز الاجتماعي، فما هي صفاتها إذن؟

لعل أهم مقياس يميز بين “العِلِيّة”و”السِفْلة”، هو نوع التغير الذي يحدث للفرد إذا ما نال مالا أو منصبا أو فراغا، فالشخص من العِلِيّة إذا كسب مالا نفع به وانتفع، وإذا نال نفوذا أفاد وأصلح، وإذا حصل على فراغ أنتج وأبدع. أما الشخص من السفلة فالمال عنده لا يعني إلا الغرق في المتعة، والنفوذ لا يحقق إلا المصالح الشخصية، والفراغ ليس إلا للفساد والإفساد.

و”العامة” وسط بين العِليّة والسِفْلة، ويختلف الفرد من العلية عن الفرد من العامة في أن الأول قوى بشخصه، أما الثاني فلا تظهر قوته إلا إذا اجتمع بأمثاله، ولا يظهر نفعه هو وأمثاله إلا إذا قادهم رئيس من العلية، قادر على تنظيم الجماعة وتوجيهها لتحقيق أهداف راقية..

فإن لم يكن للعامة رؤساء من العِليّة، يقودونهم إلى ما فيه الصالح العام، فسد كل شيء، وعم الاضطراب والبلاء، واقتصرت أعمال العامة على (تكدير الماء وإغلاء السعر وتضييق الطريق) كما كانوا يقولون قديما.

كذلك من أهم ما يتميز به العِليّة عن العامة وعن السِفْلة، الطريقة التي يتم بها تحفيز كل منهم للقيام بالأعمال الصالحة وترك الأعمال الفاسدة.

يقول أنو شروان – ملك فارس العظيم – :” سُــس خيار الناس بالمحبة، وامزج للعامة الرغبة بالرهبة، وسُس سِفلة الناس بالإخافة”.

وللعرب أقوال مأثورة تشير إلى هذا المعنى : “العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة”. و “إذا أنت أكرمت الكريم ملكته، وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا”… إلخ.

فإذا نحن جمعنا هذا النوع من المأثورات، رأيناه لا يخرج عن معنيين اثنين:

الأول: أن سفلة الناس لا تشغلهم إلا الحوافز المادية، كلما نالوا منها شيئا زاد تهالكهم على طلب المزيد منه. بينما تنتقل العِليّة من الناس – بمجرد حصولهم على أقل قدر من ضرورات الحياة – إلى طلب العلم والاحترام والمحبة والتميز.

الثاني: أن السِفلة – مهما أعطيتهم – لا يفكرون – ولو للحظة واحدة – فيما يجب أن يقدموه مقابل ما حصلوا عليه.

ولعل من أهم ما تقاس به درجة رقي الأمم أو انحطاطها، مكانة الصفوة فيها، فإذا كان عِليّة القوم هم أكثر الناس مالا وأعلاهم منصبا وأوسعهم صيتا وأقواهم مركزا، دل ذلك على رقي الأمة وتفوقها، ولو كانت أمة صغيرة أو فقيرة، وإن كان الثراء والنفوذ من نصيب السفلة دل ذلك على انحطاط الأمة وتأخرها، ولو كانت أمة كبيرة أو غنية. وقد قال عمرو بن العاص مرة : “موت ألف من العِليّة خير من ارتفاع واحد من السِفْلة”.

سئل أحد نجوم المسرح العربي:”لماذا تقدم المسرحيات الكوميدية الراقية كما كنت تفعل ؟ ولماذا يتهمك النقاد الآن بالإسفاف والتهريج؟”. قال:”أنظروا إلى أي من الناس تتدفق الأموال إلى جيوبه في زماننا، ثم تعالوا واسألوني سؤالكم”.

 قل لي إذن ! إلى أي الناس تتدفق الأموال؟، وعلى أي الناس تعرض المناصب، ومن من الناس يكثر ذيوع أسمائهم وصورهم في الجرائد والإذاعة والتليفزيون؟، أقل لك مقدار رقي الأمة أو انحطاطها، ولا جرم، فالعامة – وهم الأغلبية – تتطلع دائما إلى الأمثلة الناجحة، والنجاح – كما تتصوره عقولهم – يتركز في إحراز المال والجاه والنفوذ، فإن وجدوه من نصيب المثقفين والفاضلين والأكفاء، تطلعوا إلى اكتساب الثقافة والفضل والكفاءة، وإن وجدوه من نصيب السفهاء والفاجرين والتافهين، تشبهوا بهم أملا في اكتساب بعض  المغانم.

يحكى أن ملكا من ملوك العجم كان معروفا بالذكاء وحسن السياسة، وكان إذا أراد محاربة أحد الملوك بعث إليه من يبحث عن أخباره وأخبار رعيته، قبل أن يظهر محاربته. فكان يقول لعيونه: “انظروا إلى الملك، هل ترد عليه أخبار رعيته على حقائقها ؟ وانظروا إلى الغني في أي صنف هو من رعيته، أفيمَن اشتد أنفه وقل شرهه ؟ وانظروا إلى القوام بأمره أممن نظر ليومه وغده، أم ممن شغله يومه عن غده ؟ فإن قيل له أن الملك لا يخدع عن أخباره، والغني فيمن قل شرهه واشتد أنفه، والقوام  بأمره ممن  نظر ليومه وغده، قال: اشتغلوا عنه بغيره، وإن قيل له ضد ذلك قال : نار كامنة تنتظر موقدا… اقصدوا له”.

نجاح الأمة إذن في ارتفاع عليتها، مع ضمان ألا تعمل هذه العلية على تكوين طبقة فيما بينها، بحيث يرث أبناؤها ما كان لآبائهم من أموال ونفوذ ومراكز دون أن تنطبق عليهم صفات آبائهم.

 

والله الموفق

14/11/2012

محمد الشودري
 

 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.