الأصالة والمعاصرة في الفكر الغربي المعاصر
عصر، معاصرة، عصري:
المعاصرة، قبل كل شيء، تفتح على حصيلة المعارف والفنون والتقنيات، وعلة الأفكار التي تسود الفترة المعيشة. ويستلزم هذا التعريف حرية الفكر، ومرونة الذهن للتكيف مع ما يستحدث، في مختلف الميادين. فالكسل والرتابة، ورفض التطور، خصال تعادي المعاصرة.
من هنا الفرق بين "معاصرة"(وهي مصنف من الحركات التطورية والتقدمية)، و"موضة" (مستحدثات سطحية ومؤقتة، تجلب بغرابتها وبريقها. إنها من قبيل: "خالف تعرف" واعتبار التغير لذات التغير) فلا اعتراض على استعمال "عصري" وصفا لمن أحسن اندماجه في القرن العشرين. لكن من التجني على اللغة وعلى الواقع، أن نصف بعصري، من يتقن فحسب رخصة "السوينغ"و"بوب ميوزيك" ويعرف آخر موضة في الأناقة، أو يكثر من استعمال "حرمان" و"استلاب" و"أيديولوجيا"و "ديالكتيك"و"كبح" وألفاظ أخرى لها سحر "الموضة".
إن لفظ "عصري" مشتق من عصر، فالعصري ما ينسب لعصر، وبما أن كل الناس عاشوا أو يعيشون في عصر ما، فكلهم عصريون، وقد وضع بعض المجددين، في مقابل "عصري" زيادة على "رجعي" لفظ "ماضوي" من "ماضوية" وهي عندهم: اتخاذ الماضي مرجعا، على حساب العصر والمعاصرة.
الواقع أن تلك المقابلة غير قائمة. فأبو نواس، مثلا، عصري بالنسبة لعصر بني العباس، وفي نفس الوقت ماضوي على اعتبار أن لكل شخص ماضيا عليه يتأسس شخصه، وشخصياته، وبه تحدد كينونته ويتم تشخصنها، إنه مرجعي فيما يتذكر وفيما يتخيل: الماضي حضارة وثقافة، أي تراث مشترك، وذاكرة جماعية: ومن هنا فهو "أصيل" في الشخصية.
وبما أن التواصل من أبعاد الذات العميقة، فكل عصري "معاصر" لأن "الإنسان حيوان مدني بالطبع" إنما معاصرة مع جميع من يحيون العصر نفسه، كلنا معاصرون لمن تجمعنا بهم ثقافة أو تراث: لأن لنا ذاكرة شخصية وذاكرة جماعية. عاصر أبو نواس هارون الرشيد وزبيدة، وكان يحفظ المعلقات، ويعرف الكثير عن أصحابها، أكثر أحيانا مما يعرفه عمن عاشوا معه في البلاط العباسي. وحفظ أبو نواس القرآن، واطلع على تاريخ الفترة التي تفصل زمانه عن بداية الإسلام. ذاك هو أفقه الذهني والثقافي ومنظاره على التاريخ الذي يمارسه، وعلى التاريخ الذي يملأ ذاكرته ومخيلته ويثري تفكيره.
فنحن جميعا، إذن عصريون ورجعيون/ماضويون، في الوقت نفسه، وبالتساوي وسيبقى هذا التخريج مقولة محتملة الصحة تلح على أن تحدد مفاهيم "معاصرة" و "ماضوية" و"رجعية" وأصالة…تحديات أخرى.
عرف كثير من الكتاب العرب "معاصرة" لكنهم وقعوا في تناقضات، فمنهم من يدعي: باسم التقدمية، ضرورة الاستغناء عن التراث العربي- الإسلامي لأنه عائق في سبيل التفتح والرقي.ولا بد من تنظيف ذهننا من بقايا ما علق به من آثار ماضي الأجداد، ومن بين ذلك اللسان العربي لكونه ميتا لا يقدر على مسايرة صيرورة التاريخ.فعلى مثل هؤلاء المصلحين ينطبق المثل: " أراد تطبيبه فأعماه".
عادل التريكي
لتتمة الموضوع برجاء الضغط على المرفق أدناه