التنظيم الاجتماعي داخل حي الملاح - بريس تطوان - أخبار تطوان

التنظيم الاجتماعي داخل حي الملاح

التنظيم الاجتماعي داخل حي الملاح

 

كتاب “تطوان في القرن الثامن عشر(السلطة – المجتمع-الدين )”

منشورات جمعية تطاون أسمير

للكاتب عبد العزيز السعود

 

لقد تمتعت الجماعة اليهودية داخل حومتها المعروفة بالملاح باستقلال ذاتي إداري وثقافي وفقا لما تسمح به الشريعة الإسلامية، ووضعت لها بمقتضاه نظامها ومحاكمها وماليتها الخاصة بها، وفي إطاره كذلك ضمنت لتابعيها حقهم في التدين والرعاية والتعليم وتطبيق قانون الأحوال الشخصية، بل حقوقهم المشروعة فيما بينهم، وكانت للجماعة سلطة تنظيمية تلزم أفرادها بكل ما يتعلق بالجوانب الجبائية والمصالح العامة، فالسلطة العليا في يد رئيس الجماعة ويدعى ” بارناس” وهو يدير شؤون مجلسها الذي سمي “خونته” أو ” معمد” ويتمتع بسلطة مطلقة، ويتألف المجلس من سبعة أعضاء يسمون ” برناسيم” وهم ينتخبون – نظريا- تحت إشراف الحبر الأعظم، وينتمي أربعة منهم إلى أعيان الملاح، والثلاثة الباقون يكونون بين الأحبار، ويدير المجلس المذكور شؤون الجماعة من أشغال عمومية ونظافة، ويقوم بتصريف الموارد المالية المتأتية من التبرعات والأوقاف (اليهودية)، ومن مداخيل الضريبة على اللحم ( كاشير)، وكما يضبط المجلس الوجيبة الدينية ويهتم بتدبير أمور الدين كالكنيس أو البيعة والأعمال الخيرية وشؤون التعليم، ويتكلف رئيسه “البرناس” بحمل الجزية على قائد المدينة كل سنة.

 

وتمثل البيعة المكان الطبيعي لتجمع أفراد الجماعة، وهي فضلا عن كونها محل إقامة الصلوات، فإنها تؤدي أيضا دور مدرسة كما هو حال الكتاب عند المسلمين، ويتكلف بتسييرها ثلاثة أشخاص وهم “شلياح” و ” شماش” ثم صاحب “الحزاكة”.

 

وتمثلت الهيئة القضائية الدينية العليا في مؤسسة “بيت دين” أو (المحكمة الحبرية العليا)، وهي تتألف من ثلاثة قضاة أحبار “ديانيم” يرجع إليهم الفضل في الخصومات والنزاعات التي تحدث بين سكان الملاح فيما يتعلق بالقضايا المدنية والعقارية، وأما القضايا الجنائية فيؤول النظر فيها إلى القاضي الشرعي، وكذلك الشأن بالنسبة للقضايا والخلافات التي تنشأ بين اليهود وبين من ليسوا من ملتهم ” الكوييم”، وكان بإمكان المتقاضين اليهود استئناف الأحكام الصادرة عن المحكمة الحبرية أمام عامل المدينة، ولم يكن هذا الخير يتدخل في القضايا إلا عند عدم حصول الأحبار على اتفاق بين المتخاصمين الأمر الذي يندر حدوثه في ملاح تطوان، وكان قضاء المحكمة الحبرية العليا في تطوان يشمل مدنا أخرى كطنجة و سبتة وجبل طارق، مما يبرز المكانة الدينية والعلمية لأحبار تطوان بين أقرانهم في المدن الأخرى، وكانت هناك هيئة من كتاب عموميين يسمون “صفريم” يقومون بدور العدول داخل الملاح. وأما بخصوص التجارة والحرف فإن اليهود كانوا يخضعون في ذلك لسلطة محتسب المدينة.

 

وتميزت العلاقات الاجتماعية داخل النسق الاجتماعي بالملاح بعدم الاستقرار، فقد كانت ظاهرة الطلاق منتشرة بين الأسر اليهودية، وبمقابل ذلك، وجدت لديهم بعض العادات التي كانت ترسخ الحفاظ على الذات، وتتمثل في عادة الزواج المبكر أو الزواج عند سن البلوغ، على غير عادة المسلمين كما أشارنا سابقا، وهي ظاهرة كانت توحي بإحساس هذه القلية بضرورة الحفاظ عبلى النوع نت الانقراض، وكذلك تعكس تمتين وشائج القربى بين السر التي تنتمي إلى نفس الشريحة الاجتماعية بهدف الحفاظ على الجاه والثروة.

 

وفي مثل هذا الوسط المتدين تحتل الأخلاق ونقاوة الحياة العائلية مكانة سامية، إلا أن ذلك لم يمنع بعض الأفراد من اليهود من الخروج على القاعدة فيحيدوا عن طريق الأخلاق والشرع، وهكذا تخبر بعض الفتاوي بحالات من الفجور والخيانة الزوجية والزنى كما تدل على ذلك الشهادة التالية التي حررت سنة 1750 ” زنت امرأة خلال فترة المجاعة بتطوان مع أحد الأغيار، فولدت بنتا ادعتها عائلة هذا الأخير لتقوم بتربيتها على سنة الإسلام”، ومما كان يسهل الفسق وجود الخمارات داخل الملاح التي يجتمع فيها اليهود وغيرهم، الأمر الذي جعل الحبرانية بالاتفاق مع السلطات المحلية تمنع اليهود من بيع الخمر وماحيا لجيرانهم المسلمين.

 

وكان يتكلف بالسهر على الأمن والحفاظ على النظام العام بداخل الملاح موظف يدعى “شيخ اليهود” أو “نكيد” وهو بمثابة ممثل السلطة المخزنية، ويكون تعيينه من طرف “المعمد” بعد مصادقة المخزن، ودوره يشبه إلى حد كبير دور “المقدم” في حومة المسلمين، أي أنه يمارس مهمة الشرطة تحت سلطة القائد.

 

وبرز العمل التكافلي والخيري بداخل الملاح لما كان يفرضه الايمان العميق بالدين لدى الجماعة اليهودية، فالأحبار كانا يستغلون عوامل الاستعطاف والتكافل الديني للتأثير على أغنيائهم بفرض إيتاوات نقدية أو عينية لأجل صرفها في مساعدة ضعفائهموفقرائهم، ولهذا الغرض أنشئت مؤسسة خيرية داخل الملاح كانت مواردها تأتي من ضريبة اللحم ” كاشير”، ومن الصدقات والتبرعات “ندابوت” التي تسددها الأسر الثرية، وكذلك من مداخيل الأكرية التي تنازل عن ربعها بعض الموسرين لفائدة الجماعة.

 

ولم يقتصر العمل الخيري على الجانب الاجتماعي المحض داخل الملاح، بل شمل أيضا الميدان التعليمي الذي كان له ارتباط وثيق بالدين، فكان ينفق على التعليم الأولي والديني من الصندوق الخيري، إذ كان أغلب تلامذة المدارس التقليدية “تلمود ثورة” من الفقراء واليتامى، وكانت المؤسسة التعليمية داخل الملاح صنفين: “الحدر” ويتعلم فيه الأطفال مبادئ القراءة والكتابة العبرية، وهو يشبه في أسلوبه “المسيد” عند جيرانهم المسلمين، حيث تهيمن المبالغة في الاعتماد على الذاكرة والحفظ، وقد عهد به إلى الأحبار، وجعل بداخل فناءات البيع، و “اليشفه” وهو مؤسسة للتعليم الديني العالي، ولم يكن التعليم اليهودي يسمح بتلقين اللغة العربية للأطفال، وكان الحد الأدنى للتلقين يكتمل بسرد وحفظ أجزاء من التورة.
بريس تطوان

 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.