الجامعة بين نَشْرِ المعرفة وسوق الشغل - بريس تطوان - أخبار تطوان

الجامعة بين نَشْرِ المعرفة وسوق الشغل

الجامعة بين نَشْرِ المعرفة وسوق الشغل:
دأبت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ببلدنا على تحميل مسؤولية البطالة وكثرة العاطلين عن العمل للجامعة؛ بدعوى أنها لا تربط مسالك البحث في الإجازة والماستر والدكتوراه بقطار التنمية المادية وسوق الشغل، بل بلغ الاستخفاف والازدراء والتحقير للعلوم الإنسانية عامة والتخصصات الأدبية خاصة مبلغا خطيراعلى ألسنة بعض الوزراء الثقلاء والمستثقلين؛ حتى زعم الزاعمون منهم أن الشُّعَب والأقسام الأدبية غير مُنتِجة وأنها عالة على الوزارة وميزانية الدولة بما تُنفقُه عليها من أموال من غير طائل.
والحقيقة أن الجامعة لم تنشأ في العالم بأسره -وفي أوروبا وماما فرنسا نفسها التي نُقَلِّدُها حذْوَكَ النعل بالنعل- لأجل التنمية المادية وسوق الشغل إلا في تخصصات محدودة، وإلا كانت الجامعة تابعة لوزارة التشغيل والتكوين المهني لا للتعليم العالي والبحث العلمي ولا لوزارة التربية الوطنية والتعليم، فمهمة الجامعة إذن هي إنتاج المعرفة، وتنمية الإنسان وتغذية روحه وعقله وقلبه وذوقه بالمعرفة الصحيحة والسليمة والسوية التي بها كان إنسانا ويستمر إنسانا قبل كل هدف آخر.
وعلى وزارة التشغيل بعد اكتسابه لهذه لمعرفة الضرورية أن تسهر على تكوينه وتأهيله لمهنة من المهن أو وظيفة من الوظائف حسب ما هو مُيَسَّرٌ له، وليس تلبيس الحق بالباطل وتعويج اللسان بتحميل مسؤولية بطالته للجامعة؛ فهذه مصادرة على المطلوب، فالإنسان كما هو بحاجة إلى أن يشبع من جوع، وأن يكتسي من عري، وأن يصح من مرض، وأن يسكن منزلا، وأن يركب سيارة، وأن ييسر على نفسه ظروف العيش المادية؛ فإنه لا يستطيع أن يحيى بهذا وحده؛ وإنما هو بحاجة شديدة إلى أغذية الروح والعقل والقلب والذوق، وليست هذه الأغذية إلا في الآداب والعلوم الإنسانية وقبل ذلك وبعده في الدين وعلومه، وقد قرأتُ من أقوال بعض الفلاسفة الفرنسيين لا يحضرني اسمه الآن ولكن لعله فيلسوف الوضعية المنطقية أوجست كونت الفرنسي Auguste Comteأنه قال: “وجدنا في أفريقيا وبعض مجاهيل الأمازون شعوبا بدائية وجماعات بشرية من غير حضارة Sans civilisation ولكن لم يحدث قط أن وجدناهم بغير ديانة Sans religion”، وهذا يدل على أن الدين حاجة بشرية ملحة؛ لأنه غذاء للروح والقلب والذوق والسعادة والجمال، وإلا أصبح الدين والأدب والعلوم الإنسانية أداة من أدواة وزارة التشغيل والتكوين المهني تستعين بها لبلوغ الغرض الذي أنشئت من أجله.
فربط التعليم والتربية والدين والآداب والعلوم الإنسانية كلها بالإنتاج المادي وسوق الشغل؛ تنتهي بالإنسان إلى مادية منكرة توشك آخر الأمر أن تجعل العالم والأديب أداة إنتاج لا أقل ولا أكثر، والعالم والأديب لا يكرهان شيئا كما يكرهان أن يُجْعَلاَ وسيلة أو أداة تُمتَهن وتُستغَلُّ وتُسْتَذَلُّ لِيُبْتَغَى بها المنافعُ المادِّيَّة الصِّرْفة، والحاجات العاجلة المَحْضَة.
الدكتور توفيق الغلبزوري


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.