مغــرّرون مـن لشبونة - بريس تطوان - أخبار تطوان

مغــرّرون مـن لشبونة

 مغــرّرون مـن لشبونة
 

 

في الحضارة الإسلامية صفحات ناصعة مجهولة تقتضينا إظهارها للنور وهي كثيرة تشمل كافة الجوانب الحياتية التي تدل على تقدم الإنسان، وأوضح ما يكون ذلك في الحضارة الأندلسية ذلك المعين الفياض الذي ارتوى الغرب منه وأفاد في بناء حضارته الحالية.

وللنشاط الجغرافي حظ وافر من هذه الحضارة بما في ذلك الكشوف التي سبق العرب غيرهم بها، فمجهوداتهم الجغرافية البرية منها والبحرية عظيمة صادقة أدت إلى كثير من الكشوف الحديثة، فهذا سليل الأسود ابن ماجد شهاب الدين من كبار البحارة العرب ومن علماء فن الملاحة، فله ما يقارب الأربعين مؤلفا في هذا الفن حتى لقب “بأسد البحر”.

 
ولقد روى بريّن الإنجليزي أن بحارة عدن قبل حوالي قرن ونيف من الزمان كانوا إذا أرادوا الإبحار قرأوا الفاتحة للشيخ ماجد مخترع الإبرة المغناطيسية، وهو الذي قاد رحلة فاسكو دي غاما البرتغالي (Vasco de Gama) الذي يعتبر مكتشف طريق الهند عن رأس الرجاء الصالح قادها من مالندي في كينيا على ساحل إفريقية الشرقية إلى كلكتا في الهند، فلعله هو أحرى بلقب مكتشف طريق الهند لفاسكو دي غاما.

 

 
وبالإضافة إلى تخيل الجغرافيين المسلمين لوجود أمريكا قبل اكتشافها بقرن ونصف القرن، كما ورد في كتاب “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” لابن فضل الله العمري المتوفى سنة 749هـ، فقد روي عن أبي الثناء الأصفهاني قوله: “لا أمنع أن يكون ما انكشف عنه الماء من الأرض من جهتنا مكتشفا من الجهة الأخرى، وإذا لم أمنع أن يكون منكشفا من تلك الجهة، لا أمنع أن يكون به من الحيوان والنبات والمعادن مثل ما عندنا، أو من أنواع وأجناس أخرى”.

 
فان كريستوف كولومبوس الإيطالي الذي لم يتخيل وجود أمريكا بل تخيل فقط وجود طريق جديد يوصل إلى الهند عن طريق الغرب واكتشف العالم الجديد عن غير قصد منه سنة 898هـ لابد انه اطلع على مناشط المسلمين أو كان على علم بقصة استكشافية بحرية قام بها مسلمو الأندلس وهي طريفة وغريبة غاية الغرابة، ومن عجب اننا لا نجد لهذه القصة ذكرا في الكتب التي وصلتنا إلا عند “الشريف الإدريسي” الجغرافي الكبير المتوفى سنة 560هـ في كتابه”نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”.

 
وخلاصة هذه القصة الغريبة انه في القرن الثالث الهجري قامت جماعة أندلسية بمخاطرة جريئة لكشف سر المحيط الأطلسي الغامض وتبديد المخاوف التي بالغ الفينيقيون وغيرهم في تجسيمها ليبقى المحيط مكرا لتجارتهم.

وفي لشبونة – عاصمة البرتغال اليوم – اجتمع ثمانية رجال مغرّرين – أو هكذا أطلق عليهم – واتفقوا على خوض بحر الظلمات ليعرفوا ما فيه وإلى أين انتهاؤه فأنشأوا مركبا حمالا وملؤوه من الزاد والماء مؤونة تكفيهم لأشهر، فركبوا البحر في أول هبوب الريح الشرقية، وبعد أحد عشر يوما من إبحارهم وصلوا مكانا عنيف الموج كدر الروائح كثير الصعوبات قليل الضوء حتى أيقنوا بالموت، فغيروا خط سيرهم إلى الجنوب. وبعد اثني عشر يوما وصلوا جزر الغنم (Islas Feroe)، فنزلوها ووجدوا فيها من الغنم ما لا يحصى وهي سارحة لا راعي لها ولا ناظر إليها، كما وجدوا عين ماء جارية وعليها شجرة تين بري، فأخذوا من تلك الغنم وذبحوها ولكنهم وجدوا لحمها مرا، فأخذوا من جلودها وعادوا إلى مركبهم.

 

 
وساروا في اتجاه الجنوب اثني عشر يوما حتى لاحت لهم جزيرة ذات عمران وحرث، فقصدوا إليها ليروا ما فيها فما كان غير بعيد حتى أحيط بهم في زوارق هناك، فأخذوا وحملوا في مركبهم إلى مدينة على ساحل الجزيرة فشاهدوا رجالا شقراء شعورهم سبطة طوال القامة، ولنسائهم جمال عجيب، فاعتقلوا ثلاثة أيام.

وفي اليوم الرابع جاءهم ترجمان الملك وكان يعرف العربية فسألهم عن حالهم ولمَ جاءوا وما بلدهم فأخبروه خبرهم فوعدهم خيرا، وفي اليوم التالي أحضروا بين يدي الملك، فأعادوا عليه قصتهم فضحك وقال للترجمان: خبرهم أن أبي أمر قوما من عبيده بركوب هذا البحر وأنهم جروا في عرضه شهرا إلى أن انقطع عنهم الضوء، فانصرفوا من غير جدوى، فعاد الفتية من عند الملك بعد أن وعدهم بما يطيب خواطرهم ويحملهم على حسن الظن، ثم صرفوا إلى موضع حبسهم حتى بدأ جري الريح الغربية فعمر بهم زورق وعصبت أعينهم وجري بهم في البحر مدة. قال القوم قدرناها ثلاثة أيام بلياليها حتى جيء بنا إلى البر فأخرجنا وكتفنا إلى خلف وتركنا بالساحل إلى أن تضاحى النهار وطلعت الشمس ونحن في ضنك وسوء حال من شدة الكتاف حتى سمعنا ضوضاء وأصواتا فصحنا بأجمعنا، فأقبل القوم إلينا وحلوا وثاقنا وأخبرناهم خبرنا فقال لنا أحدهم: أتعلمون كم بينكم وبين بلدكم، فقلنا: لا. قال: مسيرة شهرين. فقال زعيمنا: وا أسفي، فسمي المكان إلى اليوم”أسفي” وهو أحد المراسي غرب المغرب، ويؤخذ من كلام الإدريسي أن هؤلاء الثمانية عادوا إلى لشبونة وسردوا قصتهم على أهلها الذين لم يروا فيهم إلا رجالا مغرورين وسموا الدرب الذي فيه دورهم “درب المغرّرين”.

 
لم يذكر لنا الإدريسي اتجاههم الأول. ولذا جعله البعض إلى الشمال حتى أصبحوا بمحاذاة إيرلندا، وجعله المرحوم شكيب أرسلان – الذي له فضل إخراج هذه القصة إلى النور قبل حوالي 120 سنة – خطا مستقيما إلى الغرب فوصلوا بعد سفر يرجح أنه استمر أكثر مما ذكر الإدريسي قريبا لإحدى جزائر المحيط بين أمريكا الشمالية والجنوبية التي تقع بين 10 و27 درجة من العرض الشمالي، وبين 62 و87 درجة من الطول، وهذا أمر يمكن قبوله – رغم حاجته إلى أدلة أخرى – حيث أن استعدادهم كان يقصد به الاستمرار في الرحلة في الاتجاه الغربي لأشهر عديدة مع التصميم على المضي في تحقيق الهدف رغم إدراكهم صعوبة المهمة، ولعلهم لو ساروا في اتجاههم الأول لوصلوا إلى أمريكا الشمالية، ولكنهم يئسوا من الوصول إلى البر في ذلك الاتجاه، فساروا جنوبا حتى جزيرة الغنم ثم عادوا جنوبا  إلى الشرق فوصلوا إحدى جزر الخالدات التي تعرف باسم جزر “كناري” فالمغرب.

 

 

 
لاشك أن لهذه القصة أثرا كبيرا في تشجيع البحارة البرتغاليين وغيرهم على القيام برحلات كشفية، ونظرا لأهميتها قام بعض الأوروبيين بوضع مثل هذه القصة في القرن الحادي عشر الميلادي، ونسبتها إلى القديس براندان الراهب الايرلندي الذي عاش في القرن السادس الميلادي فقط.

والقصة إن دلت على شيء فإنما تدل على روح المغامرة المتأصلة في نفوس الرحالة العرب وعدم مبالاتهم بالخطر حبا في الكشف عن المجهول، ومن يدري فلعل في تراثنا الزاهر مثيلات لهذه البطولات فقدت إلى الأبد، فيما فقد من المخطوطات أو انها ما تزال في انتظار من يكشف عنها ويخرجها إلى النور وهو ما نرجو ألا يكون طويلا.

*-..*-..*-..*

والله الموفق

2017-09-04

محمد الشودري

 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.