الموشحات الأندلسيـة 2/2 - بريس تطوان - أخبار تطوان

الموشحات الأندلسيـة 2/2

الموشحات الأندلسيـة 2/2

 

 

بقي الآن أن نقول كلمة فيما ذكره المؤرخ الواسع الشهرة ابن خلدون عن الزجل والموشح وذلك في الفصل الأخير من مقدمته المعروفة. فهل كان ابن خلدون وبينه وبين ابن بسام وابن سناء الملك ما يقرب من قرنين من الزمن أوثق اطلاعا على حقيقة نشأة الموشح وأصوله من ابن بسام وابن سناء الملك؟ وللإجابة على هذا السؤال يكفي أن نشير إلى مقال نشره الدكتور عبد العزيز الأهواني بهذا الصدد في مجلة الأندلس – مجلة المستشرقين الإسبان – في عام 1948م أوضح فيه بصورة لا تقبل الشك أن ابن خلدون قد نقل كل ما قاله عن الموشح والزجل وبصورة حرفية عن كتاب “المقتطف من أزاهر الطرف” لابن سعيد. وكان الدكتور الأهواني قد اعتمد في ذلك الحين على مخطوطتين من كتاب المقتطف هذا، واحدة منهما في دار الكتب المصرية في القاهرة وأخرى في دير الاسكوريال غير البعيد عن العاصمة الإسبانية – مدريد. لذلك نرى أن المؤرخ المشهور لم يصدر عن نفس الثقة في الكلام عن الأدب التي كانت له عند الكلام عن التاريخ. وما كتبه ابن خلدون عن الموشح والزجل لا يساعدنا على تبديد الغموض الذي يحيط بنشأة الموشح والزجل.

 

 
وخلاصة ما أريد أن أقوله الآن هي أن الانطلاق في تفهم نشأة الموشح من النصوص التي وصلت إلينا في ذخيرة ابن بسام أو مما قاله ابن سناء الملك في دار الطراز وابن خلدون في نهاية المقدمة يؤدي إلى الكثير من المزالق ويبقى قليل الغناء في تفهم نشأة الموشح وحقيقته أو فهم طبيعة الصلة بين الموشح والزجل على حقيقتها. وهذه هي النصوص في ذخيرة ابن بسام وفي دار الطراز لابن سناء الملك قد أدت بالكثير من الدارسين إلى المزالق. وحملت المستشرقين على استنتاجات تبدو معقولة وخلابة في ظاهرها ولكنها في الواقع لا تجدي ولا تثبت أمام التحليل المنطقي الدقيق. فإذا كان الموشح حسب نصوص ابن بسام ونصوص ابن سناء الملك يقوم على أساس الخرجة، والخرجة قد تكون أعجمية فهل تعجب إذا رأينا بعض المستشرقين يقولون أن الموشح ومعه الزجل يقومان على أساس من الشعر العجمي أو الإسباني بدل أوزان الشعر العربية.

 
وقد أعرب المستشرق الإسباني اميليو غارثيا عن اعتقاده بصحة هذا الرأي في مقال نشره في مجلة الأندلس الإسبانية في عام 1956م إذ قال  بأن ما يذكره ابن سناء الملك وابن بسام عن دور الخرجة الرئيسي أو الأساسي يؤكد بأن الموشح في الأصل ليس أكثر من قطعة شعرية، القصد منها أن تدمج في هيكلها أو قالبها الشعري خرجة باللغة الرومانسية الإسبانية سابقة لها وغريبة عنها. وأضاف غارثيا في نفس المقال أنه يعتقد بأن أكثرية الموشحات وجميع الأزجال الأندلسية يتم تقطيعها الشعري عن طريق تعداد المقاطع التي يتألف منها كل بيت. ومن باب إثبات فكرته هذه قام الأستاذ غارثيا في عام 1965م بنشر الموشحات التي تنتهي بخرجات أعجمية بالأحرف اللاتينية ولكنه ترجم هذه الموشحات جميعها إلى اللغة الإسبانية على الصفحات المقابلة ترجمة وصفها بقوله أنها تحتفظ من أول بيت إلى آخر بيت بنفس العدد من المقاطع وفي عام 1972م نشر الأستاذ غارثيا بالأحرف اللاتينية ديوان الشاعر القرطبي ابن قزمان وهو الزجال المعروف الذي توفي في عام 1160م. وفي هذه النشرة أيضا وإثباتا لنظريته قام غارثيا بترجمة جميع الأزجال ترجمة إسبانية يوازي عدد المقاطع في البيت العربي المقابل.

 

 
وهذه النظرية نظرية اعتماد الأزجال والموشحات في وزنها على المقاطع بدل نظام التفعيلات العربية المعروفة لم تكن جديدة في عام 1956م حيث كانت النظرية التي اعتمدها بصورة عامة المستشرق الإسباني خوليان ريبيرا في حديث له عن ديوان ابن قزمان ألقاه أمام الأكاديمية الإسبانية في عام 1912م بمناسبة تعيينه عضوا فيها. والذي تفترضه هذه النظرية أو ما يترتب عليها كما يلاحظ هو أن الموشحات والأزجال تعود في نشأتها إلى أصول شعرية إسبانية أو رومانسية سابقة لظهور الموشح والزجل أو ظهرت وتطورت معهما جنبا إلى جنب.

ونظريات غارثيا وخوليان ريبيرا لا تمثل إلا جانبا واحدا فقط من المزالق التي أدى إليها في رأيي الانطلاق في دراسة الموشح والزجل كما ذكرت من النصوص التي وصلتنا من ذخيرة ابن بسام أو مما قاله ابن سناء الملك في دار الطراز، فابن بسام يقول لنا ان أول من صنع أوزان الموشحات كان يأخذ اللفظ العامي والعجمي ويسميه المركز ويضع عليه الموشحة. بينما يقول لنا ابن سناء الملك أن الشرط في الخرجة أن تكون من ألفاظ العامة ولغات الخاصة. فهل نعجب بعد ذلك إذا رأينا المستشرق شتيرن وقد قام بدراسات واسعة للموشح والزجل يقول بأن أصول الموشحات هي أصول شعبية والحقيقة أننا إذا فسرنا كلام ابن بسام وابن سناء الملك بصورة حرفية لا يمكن أن نتوصل إلى استنتاج غير هذا الاستنتاج. لأنه إذا كان الموشح يقوم على أساس الخرجة ومن شروط الخرجة أن تكون عامية أو بلغة عامية. فالاستنتاج بأن أصول الموشح أصول عامية أو شعبية يبدو ولاشك استنتاجا طبيعيا لا مأخذ عليه. إلا أن استنتاجات المستشرق شتيرن (1920م-1969م)عن الموشح تتناقض بصورة واضحة مع استنتاجاته عن الزجل وذلك لأنه يقول بأن الزجل الشعبي أو العامي ليس أكثر من نقل الموشح من لغة عربية فصحى إلى لغة عامية شعبية، أو أن الزجل قد برز إلى حيز الوجود عن طريق تحويل الموشح من اللغة الفصحى إلى اللغة العامية وهو يرى أن هذه العملية قد نمت على وجه التقريب عند نهاية القرن السادس للهجرة أو حوالي سنة 1100م.

 
أما دور الخرجة في الموشح والأسباب التي جعلت من شروط الخرجة أن تكون بلغة عامية أو أعجمية هو وجود فنين أدبيين مختلفين في الأندلس الإسلامية وهما المعرب والهزل أو الأدب المعرب والأدب الهزلي. ونقطة الاختلاف أو جوهر الاختلاف بين الاثنين هو الفارق بين أدب يكتب بلغة عربية فصيحة وتلتزم فيه جميع مستلزمات البلاغة وضوابط الإعراب. وأدب يشعر فيه الكاتب بمنتهى الحرية في تنكب قواعد الإعراب والتحلل من كل ما تفرضه أو تقتضيه أحكام البلاغة.

الأدب المعرب كما تدل تسميته يخضع لقواعد أدبية ولغوية صارمة، بينما يبدو الأدب الهزلي في حل ليس من قواعد الإعراب فحسب بل في حل من أبسط قواعد الحشمة واللياقة. فقد كان الهدف من الأدب الهزلي كما تدل تسميته إشاعة روح المرح والدعابة بين قارئيه أو سامعيه، ولذلك فإن الشعراء أو الكتاب الذين أجادوا النظم أو الكتابة في هذا النوع من الأدب ما كانوا يتورعون عن استعمال الكلمات السوقية الفاحشة في ما ينظمون أو يكتبون.

وبصورة مختصرة أقول الآن أن الاستنتاج الذي توصلت إليه بالنسبة للخرجة ودورها في الموشح هو أنها مادة من الهزل أو الأدب الهزلي تلحق بالموشح المكتوب بلغة فصيحة معربة، ولذلك كانت الخرجة بلغة عامية وجاز أن تستعمل فيها بعض الكلمات السوقية الفاحشة أو بعض الكلمات الحجاجية كما يقول ابن سناء الملك وذلك نسبة إلى الحسين بن الحجاج وما في أبياته من فاحش للكلام. وقد كان من الطبيعي لهذا الأدب الهزلي في الأندلس إذا كان له أن يحقق الغاية المطلوبة من إشاعة روح المرح والدعابة أن يلجأ بعض الأحيان إلى استعمال بعض التعابير باللغة الإسبانية الرومانسية أو استعمال الكلمات البربرية السارية أو المفهومة في أوساط الأندلسيين. ولذلك جاز أن تكون الخرجة كما يقول ابن سناء الملك بلغة أعجمية. ولذلك قال إن الشرط فيها إذا كانت أعجمية أن يكون لفظها في العجمي أيضا سفسافا نفطيا.

وخلاصة ما أريد أن أقوله عن الخرجة في الموشح هو أن دورها ليس بالدور الأساسي كما توهم الباحثون، وليست الأساس الذي بنى عليه الموشح. إنها مادة من الهزل أو الأدب الهزلي في نهاية الموشح المعرب. أو أنها بكلمة أخرى مادة من الأحماض المعروف في الأدب العربي منذ أقدم عصوره ولكونها مادة من الأحماض أو الأدب الهزلي في نهاية الموشح المعرب يفيض ابن سناء الملك في وصفه لها ويقول “انها إبراز الموشح وملحه وسكره ومسكه وعنبره”.

انتهى المقال.

 

 

 

 

 
*-*-*-*-*
والله الموفق

2017-08-07 

محمد الشودري


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.