عقـــــوبة الضخــامة في الأفراد والأمــم - بريس تطوان - أخبار تطوان

عقـــــوبة الضخــامة في الأفراد والأمــم

   

عقـــــوبة الضخــامة

في الأفراد والأمــم

أنت تنظر الشيء الصغير القليل فقد يُطربك صغره لاسيما إذا دق خلقه وتنمنم فتقول ما أجمل.

ثم أنت تنظر الشيء الكبير الكثير فقد يهولك كبره لاسيما إذا هو ملأ عينك وزاد وفاض عن مجال بصرك فلا تدركه النظرة الواحدة بل النظرات متباعدة وعندئذ تقول ما أضخم وما أفخم.

كلا الصغر والكبر يشوقان.

وإن يكن للصغر عيوب معروفة شائعة فللكبر عيوب لا هي بالمعروفة ولا الشائعة وللضخامة عقوبة بل عقوبات متعددة.

إن الرجل الضخم له في داخل جسمه عقوبة وله في خارج جسمه عقوبة.

ومن عقوبة الرجل الضخم في داخل جسمه أن أعباءه الكثيرة تقع على قلبه الكليل المتعب، ذلك الذي عليه أن يروى من هذا الجسم المتباعد مشارقه ومغاربه وتتحرك الضخامة فلا يلبث أن يدركها التعب فتحط َّعلى أقرب مقعد.

 

 
ومن عقوبة الرجل الضخم في خارج جسمه أنه يأخذ من أنصبة الناس في الحياة أكثر مما وجب. في الحافلة يأخذ مقعد اثنين وعند المائدة يلتهم طعامين وعند الترزي يأخذ بدل المترين الثلاثة من الأمتار والأربعة وهو إذا مشى في الطريق سده، وإذا هو تأرجح تحاماه الناس خشية أن يندقوا تحته.

وإذا نحن نقلنا الضخامة من الحقيقة إلى المجاز، وجدنا الرجل ذا الاسم الضخم الذي يملأ من حيث هو من الدنيا القليل منها أو الكثير هذا الرجل الضخم لابد أن يحافظ على أبعاده بالصعود دائما.. فهذه عقوبة الضخامة من داخلها.. وإن هو وجد ألفا يصفقون له عند الصعود وجد مائة يصفرون له هم زعانف هذه الأرض. فهذه عقوبة الضخامة من خارجها.

وكالأفراد الأمم.

وإذا نحن أوغلنا في القدم نطلب الأمم التي نعرفها أكثر عرفانا، وأكثر تفصيلا وقعنا على الأمة الإغريقية. كانت في القديم أمة من أوثق الأمم صلات أجزاء. نعم صلات أجزاء فهي لم تكن أمة مجزأة ولكن أجزاء متواصلة ويتصلون وينفصلون ويربطهم جميعا رباط واحد من لغة واحدة وكانت أقوى الروابط ومن مهابط واحدة ومن عادات واحدة وميثولوجية واحدة ومن وعي بأنهم جميعا معا وللخير جميعا معا وللشر معا ماض واحد ومستقبل واحد.

وكانت للإغريق مدائن متفرقة بذلك قضت جغرافيتها وتقع المدينة في واد والمدينة في واد وبينهما حائط من جبل وصعب اللقاء فاستقل كل عن كل. فأثينا في ناحية، واسبرطة في ناحية، وهاجروا إلى آسيا وهاجروا إلى إيطاليا وحملوا معهم عادة التفاصل المتواصل. كانت كلها “دولا مدائن” وجمعتهم الألعاب الأولمبية وجمعتهم عند آلهتهم الحفلات الدينية. ويصرخ صارخ الحرب فيتصارخون جميعا من فوق رؤوس الجبال فإذا الجيوش مجتمعة وإذا بها تواجه جيوش الفرس الغازية.

أمة فتتتها الطبيعة وربطتها برغم الطبيعة أحاسيس القلوب وبأنهم جميعا معا.

وعرف الإغريق في القديم الأمم الكبيرة عرفوا مصر وعرفوا فارس وعرفوا الرومان من بعد ذلك.

ولكن حتى هذه الأمم الكبيرة ذات الدولة الواحدة كانت مدائن في شبه عزلة يحكمها من بعيد حاكم واحد. كان هذا بسبب صعوبة اتصال أرض بأرض لم تكن من مواصلات بغير البغال والحمير والخيل والجمال. والبريد يأخذ الأيام الطوال بين طرف من الأرض وطرف.

من أجل هذا كان حكم الناس بسائر الأرض حكم قرى متعازلة ومدائن وعيشة الناس عيشة قرى متفاصلة ومدائن وكانت على هذا ليست بالكبيرة، الخباز أو الحلاق فيها يعرف أهل الحي جميعا ويعرفونه، والقاضي يعرف الناس ويعرفونه، وصاحب الولاية يكاد يتبين الناس بوجوههم وإلا فبأسمائهم وشهرتهم وكانت الناس تسعى بأنفسها لأنفسها ولم تكن الحكومات إلا للضبط والربط.

وأخيرا جاء عهد الأحجام الكبيرة والأمم الضخمة وفني كل هذا بفناء هذه العهود.

طويت هذه الأزمنة طيا وجاء الناس أخيرا، زمن جديد زمن بدأ منذ عهد قريب زمن السفن وهي تجري بالبخار زمن القاطرات زمن الطائرات وربطت هذه المدائن في الأمة ربطا فكأنما جعلت منها على تباعدها مدينة واحدة. ولكنها مدينة ضخمة عظيمة وكثر ناسها وتعددت صوالحها وتعقدت وجوه الأشياء فيها بدخول المدنية الحديثة.

وبدل أن كانت الأمة مليونا صارت ملايين ومن عشرة ملايين صارت عشرين، ومن عشرين صارت مائة..

وهنا أخذت الضخامة تعطي عقوبتها طال المدى بين حاكم ومحكوم طال الرِّشاء (حبل الدلو) بين ماتح بئر وممتوح.

حكم القرية الذي قرب بين رعية وراع تماست أحاسيسهما ضاع. وضاع حتى حكم المدينة والحاكم الأكبر قد يراه الناس وجها ولكنهم لا يمسونه فكرا وحديثا سادرا وقلبا وهم إن رأوه فهو لا يراهم إلا كتلا.

وتمثل الناس في البرلمانات حقا، ولكن حتى هؤلاء الأعضاء نالتهم عقوبة الضخامة التي منها جاءوا. فالمدينة الضخمة هي التي أنتجتهم وأنشأتهم رجالا ونساء ما مسوا بيئتهم إلا مسا بعيدا.

كان لابد من تكسير هذه الضخامة هذا الحجم الكبير إلى أحجام أصغر تملأ الكف الواحد فلا تزحمه. فقامت من أجل ذلك في أمريكا الولايات وأسموها متحدة فهي أمة مجزأة وهي أجزاء مترابطة ولكل ولاية برلمان. وللولايات جميعا مجتمعة برلمان. وقامت في إنجلترا الشيرات Shires وعادوا يقسمون الولايات والشيرات إلى ما دونها وحدات حتى  بلغوا القرية.

 
والمدينة الضخمة حطموها فجعلوها أحياء وجعلوها مجالس إيمانا بأنه ليس أفهم للموضع الواحد مثل أهله ولا أعرف به ولا أحنى عليه مثل أهله.

إن قوة الأمم لا تنصب من فوق إلى تحت ولكنها تنبت من أسفل جذورا تضرب في الأرض وتضرب حتى في الصخر آلافا هي التي تمسك الشجرة الكبيرة الهائلة.

هذه هي الديمقراطية الحديثة.

وهذا علاج ضخامتها.

وكما للضخامة عقوبة، فكذلك للصغر.

وعقوبة الصغر جاءت من ضخامة الكبر.

إن الغزال الصغير لا يستقر طويلا أمام السبع الكبير ولكن يستقر الفيل ضخامة بضخامة والصغير في الحيوان كالصغير في الأمم إن الدنيا غاب ولو سكنتها حيوانات ناطقة غير غابية.

وأمم الأرض قديما وحديثا عانت عقوبة الصغر، ومن أشهر بقاع الأرض معاناة لذلك شبه جزيرة البلقان اختلفت عليها الأمم الكبيرة ففتتوها دولا صغيرة كانت سببا لمتاعب أوربا زمنا طويلا. وكانت ظاهرة خبيثة تمكنت من عقول الساسة حتى اشتقوا لها من “البلقان” اسما هو “البلقنة” ومعناها تفتيت الأمم لقمات أصغر فأسهل ازدرادا كما تبلقنت بلاد الشام فأصبحت دولة سوريا، لبنان، الأردن وفلسطين. (هذا ولا زال أعداء الأمة العربية والإسلامية يعملون بكل قواهم على تجزئة.. المجزأ، وتقسيم.. المقسم.. وتفتيت المفتت !!).

 
 
ومن أشهر بقاع الأرض الأخرى التي تبلقنت شبه الجزيرة الكبرى في الجنوب الشرقي من آسيا تلك التي تعرف بالهند الصينية. وافتح أطلسا كان لي يرجع تاريخه إلى أوائل القرن 20 فأجد دولتين تملآن شبه الجزيرة هذه لا ثالث لهما هما سيام وأنام. وافتح أطلسا من أطالس هذه الأيام فأجد في شبه الجزيرة هذه الأيام تيلاند، وكمبوديا، وفيتنام الشمالية، وفيتنام الجنوبية، ولاوس..

بلقنة لا شك فيها.

والخصومات دائرة عليها إنها على العادة مصدر الدنيا الأول للقصدير ومصدرها الأول للمطاط وبها البترول وبها خزائن من ركائز لم يكشف الغطاء عنها بعد.   

وهي تعاني اليوم من بعد بلقنة عقوبة الصغر.

وصف أمريكي حالهم قال: إن الأكثرية الكبرى يخيم عليها الفقر ويخيم الجهل وتجارة البلاد وثروتها في يد رجال من الهند تارة ورجال من الصين تارة ورجال من البيض تارة أخرى.

إن أرضا كهذه بها كل هذا الثراء لابد أن تتفتت ولابد أن تبقى على جهالتها وفقرها وإلا ما جاز أن يكون للغير فيها استغلال.

وموضع من الأرض آخر نالته عقوبة الصغر.

ذلك أمريكا الوسطى ذلك البرزخ الذي يصل أمريكا الشمالية بأمريكا الجنوبية وإذا جمعت إلى هذا البرزخ جزر بحر الكاريبي جمعت الشبيه إلى أشباهه في هذه الرقعة القليلة من الأرض مقسمة إلى عدة دول هبط سكان بعضها إلى المليون من الناس.

 
وأرادت يوما ما أن تلتم في دولة واحدة فعجزت وقيل بل حيل بينها، ولهذه الدول الصغيرة منذ منتصف القرن 19 قصة غريبة فيها العبرة لمن لم يتح له بعد أن يعتبر. وحاكيها لا يعدم أن يسيء بحكايتها وكفانا إلى اليوم من أقاصيص الاستعمار حكاية وإساءة إنما الهدف أن يدرك المسيء إساءته فيصلح ما أفسد الزمان.

ويكفينا أن نقول ان كاتبا إنجليزيا في مطلع عام 1961م قص من هذه الأقاصيص الكفاية وبلغ من كشف ألاعيب المال غاية وقسم هذه البلاد على درجات الفقر والغنى فوقعت كل من كوستاريكا، والسلفادور، وبنما، وكوبا، وجمهورية دومنكا، وقعت جميعا في باب الفقر المكين ووقعت جواتيمالا، وهندوراس، ونيكارجوا، في باب الفقر المكين الأمكن ثم هايتي، وهذه جعل لها بابا وحدها هو غاية الفقر.

عقوبة الصغر التي فت في عضد رجالها ومكن منها لغير أهلها.

 

 
أما بعد، أيها العربي، أيها العربي !! فهذه الضخامة وهذه عقوبتها وهذا هو الصغر وهذه عقوبته ضربنا لك أمثالا منها في شرق الأرض وفي غربها فانظر فيها وحقق وتدبر فلعل أن يكون لك منها شعاع يضيء لك طريق الغد فإني أراه قليل النور يحتاج الضارب فيه من الفكر إلى أكثر من شعاع يهدي السبيل.

 

  
والله الهـادي

2016-03-03

محمد الشودري


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.