التواصل الحضاري في الإسلام - بريس تطوان - أخبار تطوان

التواصل الحضاري في الإسلام

 

التواصل الحضاري في الإسلام

 

 ـ محمد القاسمي الريبوز/ بريس تطوان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

المجتمعات البشرية كائنات تعيش ضمن مجموعة تزدهر أفضل من خلال نوع البيئة التي توفر لها وسائل الاتصال والتعاون والتعارف، وخلال كل مرحلة من مراحل حياتنا تلعب العلاقات الداعمة دوراً مهماً في شعورنا بالسعادة وتقدير الذات والصحة وجودة الحياة، والعيش والعمل في إطار بيئة اتصال، سواء بين الأفراد أو المؤسسات، فتساهم في إرساء دعائم “الأشياء الصحيحة”، وحينها فقط يزدهر البشر ويحققون الأفضل بالنسبة لأنفسهم.

إننا نزدهر في المناخ الذي يزرع روح الاتصال والامتياز الذي توحي به، وعلى الجانب الآخر، يقود عدم التناغم إلى التعطيل والتدمير، ويخلق جواً من الفوضى التي تقضي على التعاون والإبداع وتدمر أرواحنا، وعندما نعيش أو نعمل أو نتعامل في بيئة غير أخلاقية وغير داعمة، لا تتم تلبية احتياجاتنا، وتحدث أشياء تضر بصحتنا وحيويتنا وعلاقاتنا.

وقد أثبتت العديد من الدراسات التي أجريت حول العالم أثناء العقود الأخيرة أهمية الدور الصحي الذي يلعبه “عامل الانسجام الإنساني” الذي يمنح الشعور بالدعم والاهتمام والتقدير. فالعمل ضمن أجواء تتسم بالتراحم والتآزر يقلل بشدة من أخطار المرض، كأمراض القلب والسرطان، والأمراض الأخرى التي تهدد حياة الإنسان.

مفهوم التواصل:

التواصل لغة هو الاقتران والترابط والالتئام، وهو ضد التقاطع والهجر والتصارم.

واصطلاحا: هو ذلك التفاعل الإيجابي، الناتج عن استعمال حواس التواصل في إرسال الخطاب و استقباله، النابعُ من رغبة صادقة في صلة الآخر والاتصال بوجدانه عن طريق الفهم و الإفهام، المنطلقُ من إرادة الوصول إلى المعرفة الحقة.

ومن دواعي التواصل نجد:

أ- طبيعة الإنسان الاستخلافية.
         قال الله تعالى “و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة لعلكم تشكرون” النحل: (60).و معناه أن الله كرم الإنسان و أنعم عليه بحواس التواصل لتتبع آيات الله في الكون و تحويلها إلى علوم تؤهله لتصديق الوحي، و تحقيق العبودية لله عز و جل و العمل في الدنيا مع الاستعداد للآخرة بقناعة يقين.

     قال عز وجل: “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ” البقرة: (30).

          ب- حاجيات الإنسان الاجتماعية:

وتتمثل في حاجته للشعور بتقدير الآخرين له و تعبيره عن تقديره لهم، و رغبته في اعتراف الآخرين به لسد حاجياته الضرورية.

فالإنسان مدني بطبعه كما يقول العلامة ابن خلدون ـ رحمه الله ـ فهو لا يستطيع أن يعيش منعزلا عن الآخرين، تجده دائما بحاجة ماسة إلى التفاعل مع المجتمع من حوله، وذلك بطرقه المختلفة، والمخلوقات كلها تتواصل فيما بينها، ويتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات الأخرى بالتواصل الراقي، بالفعل قبل القول، يقدم نموذجا تواصليا حضاريا عن طريق التعامل مع غيره.

اللغة والتواصل في الإسلام.

نجد اللغة العربية عند العلامة عبد الله النديم من مقومات النهضة التواصلية مع الآخر، والتقارب المنشود، ويضعها في المرتبة التي يحتلها الدين، وذلك لما بينهما من علاقة، فاللسان العربي عنده هو لسان الدين، وترجمان الوطن، وربط بينهما كارتباط الروح بالجسد، وإذا فقدت الأمة لغة تواصلها مع الآخر فقد فقدت الدين والتاريخ والوطن.

وإذا كان النديم قد رآى في الدين والوطن والجنسية ثوابت هوية التواصل الحضاري التي لا يجوز المساس بها حتى لو اقتضت المنافع، فلقد رآى في اللغة أيضا ثابتا من هذه الثوابت، لأنها لسان الدين وترجمان الوطن وعنوان الجنسية،  ولهذا لا تميل أي دولة لنقل التعاليم من لغتها إلى لغة أخرى مهما مست الحاجة إلى ذلك.

ومن التحديات اللغوية التي تصدى لها ابن النديم في مشروعه: ” التحديات التواصلية”.

1ـ تحدي اللغة التركية للغة العربية في المناطق التي حكمها العثمانيون.

2ـ تحدي اللغة الأوروبية الزاحفة على الشرق العربي، في ركاب الاستعمار ومدارس التنصير.

3ـ تحدي اللغة العامية، التي يتوسل بها الاستعمار وعملاؤه من الأجراء سبيلا لإزاحة اللغة العربية من ثوابت الهوية التواصلية، تمهيدا لإزاحة الإسلام والقرآن والتراث، لتفقد الأمة عوامل استعصائها على التبعية والذوبان في حضارة الغزاة. الإسلام والعلاقات الدولية.

لقد أشرق الإسلام بدعوته المتكاملة، وقوانينه العادلة، فاخذ بيد المجتمعات البشرية الحائرة، إلى طريق الأمن والاستقرار، وحياة الحق والخير والإصلاح، واهتدى الناس على يد صاحب الرسالة وخاتم المرسلين، فقد تواصل معهم بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وجاءهم برسالة اشتملت على كل ما فيه سعادة الفرد والمجتمع، في الدين والدنيا والآخرة.

وقد تخبطت الإنسانية فيما قبل الإسلام في مجتمعات وثنية تخيم عليها الجهالة والضلالة، والعلاقات القبلية المشحونة، وعلاقات البلاد لم تكن أحسن حالا من علاقات الأفراد، وعلاقات الدول لم تكن أخف وطأة مما ترزح تحته البلاد والمجتمعات، فكانت الحروب تشن لأتفه الأسباب، وترى الغارات بين الحين والآخر.

وهكذا، لا علاق إنسانية بين الأفراد والمجتمعات، ولا علاقة دولية بين دولة وأخرى، فكل وشائج الصلة الإنسانية مبتورة، وكل العلاقات الدولية في ذلك الحين تصرخ بالغارات، وتحترق بالبطش والزحف والعدوان.

وظلت الحياة هكذا، إلى أن بعث الله رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فدعا الناس إلى ربهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور ومن قانون الغاب إلى القانون الإلهي العادل، الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلى أحصاها، ومن حياة الجاهلية المظلمة إلى حياة الإسلام الوارفة الظلال، الآمنة المطمئنة، فوضح الحق من الباطل، والخير من الشر، وأنار لهم معالم الطريق، وسبل التواصل والتعارف، والأخوة والصلة.

 قواعد التواصل الحضاري في القرآن الكريم.

فقد أرسى الإسلام قواعد أصيلة للعلاقات الدولية بين الدول بعضها مع بعض، وبين الأمم والشعوب.

وأول قواعد هذه العلاقة: ” الوحدة” بين المسلمين القائمة على التعارف والتآلف، وأسسها الإيمان بالله، وثمرتها تقوى الله سبحانه.

قال تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير” الحجرات: (13).

وقال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ” النساء: (1).

ومن قواعد العلاقات الدولية الثابتة: ” السلم” ففي ظله تتمكن الوحدة من القيام، وفي جوه يتمكن الأفراد والجماعات من التعارف والتآلف والتآزر والتعاطف.

قال تعالى: ” وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” الأنفال: (61).

والإسلام في دعوة الناس إلى الحق لم يتخذ الحرب وسيلة للنشر والتبليغ والإرشاد، وإنما اتخذ “الحكمة والموعظة الحسنة”.

قال تعالى: ” ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ” النحل: (125).

وبين سبحانه أنه لا إكراه في الدين، فقال تعالى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” البقرة: (256).

وقال تعالى: ” أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” يونس: (99).

وفي حالة الحرب، نرى أن الإسلام لا ينادي بالحرب إلا إذا امتدت إليه يد الأعداء وقُوتل المسلمون.

قال سبحانه: ”  أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله” الحج: (39 ـ 40).

وقال جل شأنه: ” وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ” البقرة: (19).

ومن أهم القواعد الأصيلة في العلاقات الدولية: ” الوفاء بالعهد” قال سبحانه: ” وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون”  النحل: (91).

وقال الله تعالى: ” وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا” الإسراء: ( 34).

 
وللإسلام فضل السبق على سائر الأمم، وعلى شتى النظم الحديثة والقوانين الوضعية والدول المتقدمة، التي تنادي بحقوق الإنسان، وبالعلاقات الدولية.

لقد كان للإسلام الفضل في الغاء الفوارق بين الشعوب والأمم والدعوة إلى الأخوة الإنسانية، والتقارب بين الأجناس المختلفة في اللون واللسان والعرق والدين.

قال صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع: ” أيها الناس، اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا.. إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث….!

فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه (…..) ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله.

أيها الناس، إنه لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بها أنفسكم، وتحجون بيت ربكم، وأطيعوا ولاة أمركم، تدخلوا جنة ربكم، أيها الناس ! إن ربكم واحد و إن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي و لا لأحمر على أسود و لا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” ألا هل بلغت؟ فيبلغ الشاهد منكم الغائب. … ” رواه مسلم تحت رقم: ( 1218).

هذا هو الإسلام في علاقته ومبادئه الإنسانية السمحة، فماذا يقول أعداء الإسلام وخصومه عنه؟

إنه لم يدع جانبا من جوانب العلاقات والمعاملات، ولا حالة من تلك الأحوال إلا وكانت له قوانينه العادلة، ومبادئه الفاصلة، التي ترقى بالدول والأمم والمجتمعات والشعوب إلى المستوى الإنساني الرفيع، الذي يصبوا إليه كل ذي عقل سليم، يرى الخير فيفعله، ويرى الحق فيتبعه، ولا حق ولا خير إلا في الإسلام، الذي ارتضاه الله تعالى لعباده دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا.

قال تعالى: ” فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” الروم:  (30).

……………………………………..

المصادر والمراجع:

ـ القرآن الكريم.

ـ صحيح الإمام مسلم.

ـ مجلة الأستاذ العراقية، العدد الخامس والعشرون.

ـ الفرائد في العقائد، للأديب عبد الله النديم.

ـ مجلة الأزهر، العدد أبريل 2004 الجزء السابع السنة 77.

ـ الأعمال الكاملة، للإمام محمد عبده.

ـ هذه حضارة الإسلام للدكتور محمود إمبابي.

………………………

 
 
 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.