رقمنة الذاكرة المغربية الأندلسية المشتركة - بريس تطوان - أخبار تطوان

رقمنة الذاكرة المغربية الأندلسية المشتركة

 
 
رقمنة الذاكرة المغربية الأندلسية المشتركة 

                                                            

“التحرر الحقيقي ليس بالثورة فقط، بل التحرر من إرث الاستعمار”، هذا ما يقوله الفيلسوف فرانز فانون. وربما لهذا السبب تظلّ إسبانيا التي أنهت نظام حمايتها على المغرب سنة 1956 الجارة الأصعب لهذه الأخيرة. فدبلوماسيا ما تزال ملفات وقضايا شائكة عالقة وتبعث على الأزمات من حين إلى آخر بين البلدين، وتبدأ هذه الملفات بجزيرة ليلى المحتلة عام 2002 عودة إلى تاريخ دعوات الفاتيكان بعد سقوط الأندلس، إلى احتلال الساحل المغربي المتوسطي والأطلسي حماية لها من “الخطر الإسلامي”، لتظل بذلك سبتة، التي احتلت عام 1580 ومليلية 1497، شاهدتين على الإرث الكولونيالي الإسباني المتجذر بالمغرب لحدّ الساعة.

  كان أحد ثوابت الإيديولوجية الاستعمارية الفرنسية أو الإسبانية بالمغرب دراسة أوضاع الأهالي وعاداتهم وتقاليدهم وتوثيقها بالكتابة أو الصور والأفلام. فقد كان المبتعثون من قبل حكوماتهم يستخدمون المناهج الإثنوغرافية أو تلك التابعة لعلم النفس قصد مساعدة المشروع الاستعماري ودعمه في الدخول إلى الحياة الحميمية للشعوب والسيطرة عليها. وبالنظر إلى الإثنولوجيا الاستعمارية، خاصة الإسبانية، فإنها تطورت عن الإثنولوجيات الأخرى وسبقتها بشكل جلي خلال ثلاثينيات القرن الماضي بما يتعلق بالجانب المغربي وإحكام السيطرة عليه، وقد أرسلت في سبيل تجذيرها الطلبة والعسكريين والباحثين، منهم الجنرال ليوطي، لينفذوا السيطرة الاستعمارية بأدوات اجتماعية متعالية، حتى وصل أوج هذا التطور إلى التصوير الفوتوغرافي وصناعة الأفلام.

كان الفن التصويري آنذاك ينتشر بين النخب الإسبانية التي كان بوسعها دفع تكاليف الدراسة، وكان انتشار هواية التصوير بين الناس خصوصا في منطقة أندلسيا أسرع بفضل تأسيس جمعيات اهتمت بتصوير الحياة اليومية والمناظر الطبيعية خلال جولات منظمة، خاصة منذ بداية القرن العشرين. ومن أشهر المصورين الذين قضوا بالمغرب وقتا طويلا، أورتيث إيشاوي، الذي استخدام “تقنية” (Pictorialismo) التي تهتم برسم المناظر الطبيعية والأشخاص ضمن مشاهد منامية، والألماني نيكولاس مولير الذي حرر كتابا عن فن التصوير بعنوان “مشاهد مغربية”، يحتوي على مئة صورة ترافقها تعليقات أدبية.

في 1940 طبعت المفوضية الإسبانية العليا في المغرب عددا من استطلاعات الإثنولوجيا وعلم اللغة والآثار قدمها علماء إنثربولوجيون، ومدحت في مقدمتها جهود الجنرال فرانسيسكو فرانكو في “بعث الثقافة الإسبانية – المغربية” التي وجب على الظهير الصادر في 1938 حمايتها. واعتمدت الاستطلاعات حينها منهج “الاطلاع بالمشاركة”، أي الاطلاع المباشر على حياة الناس بعد كسب ثقتهم. إلا أن منشور الاستطلاعات بيّن أن “العلاقات بين إسبانيا والمغرب محكومة بالشعور الوهمي بالتقارب كونها معتمدة على المعرفة المتبادلة الحقيقية، ويصيبنا بالصدمة أحيانا عندما نكتشف سطحية تلك المعرفة”. كان هدف إسبانيا ليس استجابة لفضول علمي دون فائدة عملية، بل لتطور تطبيقها من نظام الحماية. حاولت الحكومة الإسبانية أن تتجاوز وهم التقارب أو تتداركه على شكل كتب وصور وكتيبات، بعضها احتوى على خريطة جمعت حدودها في المنطقة المغربية مع الأندلس وكأنهما وحدة إدارية وسياسية تقوم الخطوط البحرية بينهما بتوحيدها عبر “الحدود السائلة” التي اعتبرت “حدودا اصطناعية أو مجرد سوء حظ”. ترافق ذلك مع ظهور التيار “الموروفيلي” الذي يدعو أنصاره إلى ربط العالمين المغربي والأندلسي. وبالنسبة لهم، فقد كانت الوحدة الجيوغرافية والنفسية – الثقافية المفترضة بين الأندلسيين والمغاربة أمرا لا بد من إثباته بكل الوسائل تعزيزا لمنطق “الإخوة”. هذا المنطق انعكس على الصور الملتقطة والموجودة في مكتبة الحماية العامة القديمة أو المكتبة العامة بتطوان، فقلما توجد صور تعكس مساوئ الاستعمار آنذاك.

ووفقا لهذا المنظور، أعيدت ما يقارب 44 ألف صورة الموجودة في أدارج المكتبة، بهدف ترميمها ورقمنتها في مشروع أطلق عليه “ريمار” أو “الحدود السائلة”، وهو مشروع تعاوني مشترك بين وزارة الثقافة المغربية والمعهد الأندلسي للتراث التاريخي الإسباني بغية الحفاظ على الذاكرة المغربية الأندلسية والتراث التاريخي والإثنوغرافي وهوية المجتمعين (مجتمع إسباني – أندلسي، ومجتمع مغربي – أندلسي) والبحث عن نقاط التشارك بينها في ما يخص العادات والتقاليد، والعلاقات الاجتماعية. جاء المشروع أيضا قصد تثمين الرصيد الفوتوغرافي الذي تقتنيه المكتبة العامة والمحفوظات بتطوان، ويمتد عمره من 1860 إلى 1956، بتوظيف التقنيات الحديثة التي تعزز التوارث الصحيح لمثل هذا النوع من الذاكرة، وحتى تتمكن الأجيال اللاحقة من الحصول عليها بيسر.

تجولت عدسات المصورين، وغالبيتهم صحافيين وإسبان، في ثنايا الحياة الاجتماعية والسياسية لفهم واستيعاب الآخر (المورو)، ونقلوا صورة أحادية الجانب، دلّلت على تحضّر الاستعمار ورقيّه في النهوض بالبلاد، وأقصت بشاعته التي بلغت ذروتها اختبارات الأسلحة الكيماوية بأهل الريف جانبا.

الآن بالقرن الواحد والعشرين أعيدت الصور من جديد، وانفتحت أدراجها لتنفتح على الآخر (الإسباني) وتستوعبه، وتعمل على تقوية الروابط المعرفية بين الطرفين من خلال “ريمار”. مشروع جمع بين المغرب وإسبانيا باتفاقية ثنائية ذات شروط، منها أن كل جهة يمكنها أن تحتفظ برصيدها من الصور، ولكن بشرط أن تفتح أبوابها للباحثين في التاريخ والطلبة والأكاديميين الذين يقصدون هذه الصور لدراستها وتحليلها.

بدأ إنجاز مشروع “ريمار” عام 2012 تحت إشراف المعهد الأندلسي للتراث التاريخي، وضم معه مؤسسات مغربية وأخرى إسبانية لتجميع الرصيد الفوتوغرافي سواء كان على شكل “نيغاتيف” أو صور ورقية، أو منشورة في مجلات تابعة لتلك المرحلة التاريخية بين الضفتين. ففي المكتبة العامة لتطوان وحدها ما يقارب 45.000 صورة فوتوغرافية تعود للنصف الأخير من القرن التاسع عشر.

قام فريق المشروع بعد تدريبهم على المهارات التقنية في الرقمنة بتقييم الصور الفوتوغرافية الموجودة في أرشيف المكتبة بتطوان وأرشيف المعهد بإسبانيا إضافة إلى أرشيفات تخص عشرين مؤسسة عامة وخاصة، وخرجوا بوسائل تضمن التعريف بالمشروع؟ أعدوا كتالوغات، وقاعدة بيانات توثّق المرقمن من الصور وموقعا إلكترونيا يسهّل للجمهور الوصول إليها. وانتهت المرحلة الأولى من المشروع برقمنة ما يقارب 25.000 ألف صورة تم اختيارها حسب فهرس مواد التصنيف العشري العالمي (CDU) ، وتم تصنيفها وفق البوابات: الفنون الجميلة (الهندسة المعمارية، والتعمير) الإثنوغرافيا، التربية والتعليم، التجارة، الصناعة والنقل والتظاهرات الثقافية. وتم ترتيب معطياتها وتوحيدها وفق حقول الوصف التي تتبعهما المؤسستان.

رافق الجانب العملي، شق معرفي تناول دراسات أعدها باحثون إنثربولوجيون إسبان، منها دراسة “رؤية حول المغرب: التحديث المجالي والحضري من خلال رصيد المكتبة العامة والمحفوظات بتطوان”، للمهندس المعماري بلاثيدو غونثاليت، فضلا عن تنظيم ورش ثقافية، مثل “تاريخ الصورة: نظرة عابرة للحدود بين المغرب وإسبانيا”.

يستطيع المتصفح لدليل “حدود سائلة” أو موقعه الإلكتروني أن يستدل على “الروح المغربية” الفلكلورية من طبيعة الصور التي كان يلتقطها الفوتوغرافيون بذلك العهد. نجد مثلا في قسم المجتمع والعادات صورا من قرى وريف وجبال الأطلس المغربي تستعرض الحياة اليومية للناس وهم يعملون في الحقول والمطاحن ورعاية الأغنام أو يقومون بطقوس “التبوريدة”. ثم نشاهد حياة مدنية بمدن (تطوان، طنجة، العرائش، شفشاون..)، يختلف فيها الناس باللباس وبممارستهم لطقوس الحفلات والأعراس والمناسبات الدينية والشعبية.

نلحظ أيضا توثيقا للوجود اليهودي في هذه المدن، ونعود عبرها لنتخيّل تطور مناحي الحياة في الشمال، مثل سفر الناس بواسطة القطار، وتطور قطاع التعليم والطب والإعلام. مثلا هناك صور تحيطنا علما بتأسيس أول إذاعة في تطوان في أربعينيات القرن الماضي، يلقي فيها المذيع أخباره أو برنامجه أمام المايكروفون. ثم تلقي الضوء على أساليب حياة اندثرت، كاندثار الحكواتي في الشارع، واندثار “حايك” المرأة الأبيض ووشمها الأمازيغي وإكسسوارات “مرسغيها” وعنقها التي شكلت على الدوام هويتها المحلية. على الهامش نقرأ استبدال أسماء الأماكن التي كانت تحمل أسماء أجنبية إلى أسماء عربية، مثلا ساحة الكنيسة بتطوان تحولت إلى مولاي المهدي، وساحة إسبانيا إلى “الفدان”، أو تصور أماكن لم تعد موجودة.

انتهى الشق الأول من المشروع، واحتفظت المكتبة العامة بتطوان بصورها المرقمنة وفق ظروف مناسبة تحفظها من الأعطاب. وقد خرج بعضها تزكية للمشروع على شكل لوحات في معرضين منفصلين أمام الملأ في إسبانيا والمغرب.

ومن المقرر أن يدخل المشروع في سياق تسويق الموروث الثقافي لمدينة تطوان المعترف بها عالميا على لائحة التراث العالمية سنة 1997، من خلال تضمينه في الخارطة السياحية للمدينة ومراكزها الثقافية، وبعض المعارض.

إن “ريمار” أو “الحدود السائلة” بهيئته الجديدة سيطرح أسئلة مشروعة عن مدى تقريبه لوجهات النظر أو فهم الآخر ومدى استعادة الذاكرة الأندلسية المشتركة بين الطرفين، وهل هذا سيميّع الحدود والاختلافات ويستبدلها بالقبول؟ وهل ستذوب الأيديولوجية الإثنولوجية الاستعمارية بإزالة طبقتها الرقيقة من فوق الصور؟ كانت تلك الصور ملاحقة للروح المغربية الأصيلة، وتظلّ لحد اللحظة تخاطب تلك الأصالة، تلفّها الرومانسية، لبساطة أيام الأربعينيات والخمسينيات.

أهمية هذا المشروع تنبع من أهمية المكتبة التي تحتضنه أيضا. المكتبة العامة للمحفوظات بتطوان، وبنبذة قصيرة عنها، تأسست عام 1939، تقع في شارع محمد الخامس وتنفتح على رصيد هائل يخص تاريخ المغرب وعلاقاته مع أوروبا والعالمين العربي والإسلامي، حيث يحتوي هذا الرصيد التراثي والوثائقي على محتويات متنوعة من الكتب والدوريات والمخطوطات والمطبوعات الحجرية والصور التاريخية والأشرطة القديمة والمسكوكات وكتب نادرة ووثائق تاريخية وأرشيف إداري وعسكري.

وصال الشيخ ـ صحافية فلسطينية/بريس تطوان

 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.