الجمال هــدف الحياة الأول - بريس تطوان - أخبار تطوان

الجمال هــدف الحياة الأول

 

الجمــــال

هـــدف الحياة الأول 

منتهى طريق الجمال الوصول إلى عتبات الله،

من أقوال ارنست رينان التي قرأتها منذ سنين ومازالت تهدر في خاطري، أنه سيأتي يوم على البشرية يكون لها فيه مقياس واحد في تقييم الأمور والأشياء والجمال. فلا داعي مثلا للكلام على الخير والشر، لأن كل ما هو خير جميل، وكل ما هو شر بشع. وكذلك الحق والباطل، الأول من الجمال والثاني من القبح. وهكذا تختصر جميع الفضائل وجميع الرذائل، في فئتين لا ثالثة لهما: فئة الجمال وفئة القبح.

 

وجريا مع هذا التفكير يمكن اختصار الوصايا والنصائح الخلقية ببضع كلمات: أحِبّ كل ما هو جميل، وابتعد عن كل قبيح. فالكذب والخيانة والسرقة والقتل والرشوة والفساد وما إليها، أشياء لا يتحاشاها الإنسان لأنها شر أو لأنها رذائل، ولا يتنكر لها لأنها تؤدّي به إلى السجن أو إلى المشنقة أو إلى جهنم… وإنما يأباها وينفر منها لأنها بشعة. أي أن شعورا غريزيا بالتقزز يحل محل شعور الخوف القائم على العقل. فكأن هذه الأشياء دنس وقذارة ينسدُّ الأنف منها، وترتد العين عنها، وتعف اليد عن الامتداد إليها.

 
وعلى العكس من ذلك الفضائل ترتاح إليها الحواس وتطمئن النفس، لا لأنها نافعة ولا لأنها تصون السمعة، ولا لأنها تتمشى مع مُعطيات المفاهيم القديمة في الخير والشر، وإنما لمجرد أنها جميلة، على مستوى عال من الجمال.

 
ولا ريب أن هدف أعرق الحضارات لم يكن إلا تجميل الإنسان والوجود، والابتعاد به ما أمكن عن بشاعات البدائية المتصلة اتصالا وثيقا بالحيوانية. وكانت هذه الحضارات على تفاوت في بلوغ هذا الهدف في نضالها من أجل الجمال وقهر البشاعة، ولعلنا لا نكتشف جديدا ولا نتجنى على أحد إذا قلنا أن الإغريق، ومن بعدهم الرومان، كانوا أحرص الشعوب على نشدان الجمال. بل إن الذهاب بهذا الحرص إلى حد العبادة لم يكن غريبا عن اليونان وما زال “الأكروبول” شاهد إثبات على ذلك.

 

ولا نوغل في الاكتشاف إذا قررنا أن أوربا وريثة الحضارة الإغريقية- الرومانية، سارت على النهج نفسه، فأشرق فجر نهضتها بعد ظلام القرون الوسطى على ألحان معزوفة متسقة من مختلف الفنون، أسهمت فيها قيثارة الشاعر والموسيقي، وريشة المصور، وازميل المثال. ومضت في تقديس الجمال وأشيائه، وصقل الأذواق إلى حد لم تبلغه أمم من قبل. فشؤون الجمال في المادة والفكر لم تعد وقفا على طبقة من الطبقات أو فئة من الفئات، وإنما عمت الجماهير وتأصلت في السواد الأعظم.

 
وشؤون الجمال لم تعد وقفا على حقل من الحقول، أو موضوع من الموضوعات، وإنما دخلت كل حقل وكل موضوع حتى أتفه الأشياء. إنها لم تعد في مشغل الفنان، أو ديوان الشاعر، أو لوحات الطبيعة، أو متاحف العواصم، بل دخلت الحياة اليومية العادية، في المسكن والملبس والمأكل. فالبيت ليس سقفا يأوي إليه المرء للدفء فقط، واللباس ليس لستر العورة أو اتقاء البرد، والمأكل ليس لملء المعدة وتمتيع الحلق واللسان، فكل هذا يجب أن يخضع لنواميس الجمال، وأن يتحلى بأكبر قسط ممكن من الجمال.

 
في القياس الحديث، لا يكفي أن تكون المدينة، ذات موقع طبيعي مناسب من حيث المناخ والمنفعة، وإنما يجب أن يضيف إليها الإنسان طابعا جميلا، يبذل فيه أقصى ما يستطيع من جهده العمراني. والسيارة لا تكفي أن تكون قوية مريحة، وإنما يجب أن ترضي العين برشاقتها وانسيابها. والثوب ليس مئزرا لستر الجسد، وإنما هو دنيا من الخطوط والألوان تبهج القلب. وطبق الطعام لا يشتهى لمجرد أنه دسم حسن الطهي، وإنما يجب أن يقدم بشكل سائغ رائع يعجب العين قبل الفم.

 

 
وأغلب الظن أن أوربا لولا اشتغالها بالحرب والغزو والتنازع، لقطعت شوطا أبعد في صقل الذوق الجمالي، وانه ليس من قبيل الصدفة بروز فن جديد عندها وعند أمريكا – التي هي امتداد لها مشوه بعض الشيء- هو جراحة التجميل. ففي ذلك دلالة واضحة على رقي الذوق وطموح لا يحد إلى كل ما هو أجمل حتى إلى تغيير وجه الإنسان عند اللزوم.

 

 
 وفي بلادنا العربية كان للجمال مكانة مرموقة. لكننا في فترة طويلة من الفترات عُنينا بالجمال المعنوي، بالجمال المجرد، أكثر من عنايتنا بالجمال المادي، الجمال المحسوس، فانعدمت اللوحة وانتفى التمثال. ولما صار الأمر فينا إلى أمم غير عريقة في الحضارة، تدنى مستوى الذوق الجمالي عامة حتى كاد يُفقد.

 
ومع أننا – أعني العرب – أعطينا الكثير من شؤون الجمال لأوربا، خلال الحروب الصليبية في أساليب الحياة اليومية، وعبر إسبانيا في الشعر والموسيقى والهندسة المعمارية، فإن أفول نجمنا في سماء السياسة والقوة، كان له أبعد الأثر في انحطاط أذواقنا وتشوفنا إلى الجمال.. وهكذا، تخلفنا عن الركب في هذا المضمار.

 
ومن حسن الحظ أن نهضتنا الحديثة رافقتها نهضة في الفنون الجميلة، فكان منا شعراء وموسيقيون ومصورون ومثالون، إن لم يكونوا جميعا عباقرة وجبابرة فلهم الفضل الأكبر في إيقاظ وعينا الجمالي، وتحريك طموحنا مجددا إلى كل ما هو جميل.

 
على أن ما نفعله من أجل الجمال وترقية الذوق الجمالي، ما زال ضئيلا. ولا عبرة بالقول أن أمامنا مشاكل أضخم وأكثر إلحاحا، كمكافحة الجهل والفقر والمرض. فنحن حين نكافح في سبيل الجمال، نكافح عمليا وآليا الجهل والفقر والمرض، لأن الثلاثة هي أبشع ما في الوجوه.

 
زد على ذلك أن العلم دون إيثار للجمال يكون نافعا، لكنه يبقى ناقصا، فالطبيب والمهندس والمحامي، لا يكون أحدهم مثقفا بالمعنى الصحيح إذا حصر عقله وجهده في حقل اختصاصه ولم يشرف من إحدى نوافذ الفن على دنيا الجمال، أي إذا لم يكن مُلمـّا بالموسيقى أو الشعر أو غير ذلك من الفنون، أو لم يكن على الأقل متذوقا لفن من الفنون. وسلامة الجسم إن لم تصحبها سلامة في الذوق فالإنسان حينئذ أقرب إلى بهيمة قوية لا تصلح لأكثر من الجرّ والحمل إن لم نقل للعضّ والرّفس.

 
الطموح إلى الجمال، طموح إلى الله،

ولتكن مستشفياتنا ومستوصفاتنا وملاجئنا وسائر مؤسساتنا الحكومية والخيرية على أبدع طراز ممكن. ولا بأس أن يكلفنا ذلك بعض المال. فرفع مستوى الذوق عند السواد الأعظم بل بعثه وخلقه من جديد، لن يتم إلا ببعض التضحيات. وهي تضحيات ما أبخسها لو تنبأنا بشهي  ثمارها.

 

 

فليس كحب الجمال ونشدانه والطموح إليه، ما يدفع بالإنسان إلى أعلى في كل حقل من حقول النشاط الإنساني، في العلم والاختراع والصناعة. وليس من قبيل المصادفة أن الأمم التي تزخر بالفنانين، وأساطين الجمال، هي نفسها التي تزخر بالعلماء والمخترعين ومهرة الصناع.

 
إن الجمال هو الذي يرفع إلى أعلى، دائما أعلى فأعلى، حتى نبلغ أجواء الفضاء العليا، حتى القمر، حتى المريخ، حتى الوصول إلى قدمي الله، منتهى الجمال الذي لا نهاية له..

*.*-*.*-*.*-  

والله الموفق

2014-10-30

محمد الشودري

 
 

 
 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.