الفـــن والفنـــانون بيــن العبــقــرية والجنــون - بريس تطوان - أخبار تطوان

الفـــن والفنـــانون بيــن العبــقــرية والجنــون

 
الفـــن والفنـــانون

بيــن العبــقــرية والجنــون 

 
الفن يشمل الشعر، والأدب، والغناء والموسيقى، والرسم بالزيت وبغير الزيت، والتصوير والنحت، وضروبا أخرى أدق وأرق وأخفى.

 
وأصحاب هذه الشؤون يعرفون بالفنانين.

ومن الغريب أن الفن اتصل من قديم الزمان بالجنون.

والفنان إذا فاق، سموه عبقريا. والعبقرية قالوا إن لها حظا من الجنون.

 
والذكاء الخارق عند الناس عبقرية خارقة فجنون خارق. ذلك أن العقل والجنون يسكنان الخط المتقوس الذي هو محيط الدائرة، فهما إذا اشتدا وامتدا التقيا من وراء على قوس ذلك المحيط.

 
ودستوفسكي Dostoevsky، الكاتب الروسي الشهير، كان مصابا بالشنج، يصيبه من حين لحين، وكتب قصته “قوم مساكين”، وكانت بشارة لمجده المنتظر، وصادف ظهورها مع ظهور الشنج فيه.

 
وتابعه هذا المرض، وتابع إنتاجه. وتابع دستوفسكي في نفسه المرض والإنتاج معا، فكان المريض النفساني، والعالم النفساني في آن.

 
ونتشه Nietzsche، الفيلسوف الألماني، لم يتهيأ له الاطلاع على مؤلفات دستوفسكي إلا في وقت متأخر من حياته (عام 1887م)، ولما درسه قال عنه ان اكتشافه إياه كان إحدى هبات الحظ السعيد، وأن ما وجد به كان خير ما يجد الدارس من مادة نفسية ثمينة.

 
وشارلس لامب Charles Lamb، الكاتب الإنجليزي المعروف، أصيب في شبابه بمسة من جنون، وأصيبت أخته. وفي أزمة من تلك الأزمات قامت فطعنت أمها بخنجر في قلبها. ورأى شارلس بعد ذلك أن يكتب كتابه الشهير “في سلامة عقل العبقرية الصادقة”.

 
وزولا Zola، القصاص الفرنسي الشهير، حدث أنه، بسبب شيوع تلك العلاقة ما بين الإبداع الفني والعبقرية المجنونة في الإنسان، رضي بأن يفحصه 15 طبيبا نفسانيا، وذلك خدمة للعلم والمعرفة. وفحصوه وخرجوا بالنتيجة وهي تقول: إن عبقريته تستقي جذورها من عناصر عصابية مرضية موجودة في مزاجه النفسي.

 

 

                                                

ومن الشائع عند دارسي الفنون أن الشقاء، شقاء الفنان، كثيرا ما كان سبب إبداعه. والشقاء، من فقر أو حب أو ظلم، إنما هي أزمات نفسية متلاحقة.

 
وحافظ إبراهيم كان في الجيش في السودان جنديا مضطرب الحال مضطهدا.

وفي السودان هو جاء بأحسن شعره. وجاءه الرفه فخبت عبقريته درجات كثارا.

وهناك رأي اعتنقه الكثير من الدارسين.

ذلك أن الفنان هو، في حياته العادية كسائر الرجال، حتى إذا جاءه الإلهام وقعد للشعر أو الموسيقى أو الرسم أو النحت، تبدت له صفات ليست بسائر الرجال.

 
إن الفنان، في فنه، غير الفنان في الشارع، وفي السوق، وبين ولده وأهله.

 
وليس أدل على ذلك من أن تقرأ شعرا يهزك، أو صورة تستهويك، وتحاول منها أن تتصور الفنان كيف هو وما شكله، وما خلقته، وما هويته. فإن أنت لقيته فما أكثر البعد بين ما رأيت وما خمنت.

 
إن الفنان له صفات سائر الرجال، وهو ماض يعمل كما تعمل الأحياء في الحياة، فإذا جلس إلى الفن المبدع فعندئذ تعلو وتطفو من أعماق نفسه كفايات من خيال، ومن إبداع، ومن تقدير وتقنين، لا عهد لأهله بها. أهله يعرفون منه صفاته على الوعي، أما المستخفية المستصرخة في الأعماق فالذي يعرفها المرسم للرسام، أو ركن المكتب الهادي للشاعر، أو جلسة عند ماء، فوق عشب، وتحت ظلال من أوراق خضر، وزهر وثمر. أو لعلها في الليل الدامس حيث لا نور إلا نور النجوم في الصحراء البعيدة الخلاء. إنه مكان الإلهام، وكدت أقول الوحي، ولم أفعل.

 
وكثيرا ما ينفض الفنان ريشته أو قلمه من عمله. وتمضي الأيام أو حتى السنون. ويعود يرى ويتأمل، أو يعود يقرأ، فيَهَالــُه ما يرى أو يسمع أو يقرأ. أهذا من عمل يده ؟ وتكاد نفسه أن تجيب: لا. ويعود فيقول: لا والله، ما كنت في هذا وحدي. كان هناك إيحاء، وكان موح. والعرب تقول كان شيطان. ولست أذكر الشاعر العربي الذي قال في شاعر آخر، يضعه دونه: شيطانه أنثى، وشيطاني ذكر.

ولقد قرأت كثيرا من نوادر تحكى عن الفنانين، ويقرأها الناس بغبطة، لاسيما إن كان بها شذوذ عن المألوف. وهي عندهم أنها شذوذ الفن. وأن العبقرية هكذا تكون.

 
ولكني، بعد أن قسمت الرجل الفنان، أو شئت المرأة الفنانة، إلى شخصين، شخص عادي يمارس الحياة كما يمارسها الناس، وشخص تأتيه نفحات العبقرية عندما يجلس إلى فنه، بعد هذا أقول إن هذه النوادر إنما تتصل بالفنان الذي يمارس الحياة مراس الناس، لا الفنان وهو مكب على فنه، وفي فمه أثداء  عبقرية يرتوي منها.

 
إن هذه النوادر التي تحكى عن الفنانين، تحكى العشرات من أمثالها على غير الفنانين، لو أن أحدا دار بين الناس وتنسم أخبارهم. وهذا أمر صعب، لا يصل إليه علم المستعلم إلا عفوا. فالفنان له تاريخ معروف يؤرخه الناس في حياته، ومن بعد مماته، فأحداث حياته مقصودة مدروسة، أما سائر الناس فأحداث حياتهم مهدورة، تحيا، ولكن في حظيرة من الأسرة والأهل والأصدقاء، إلا إذا سارت بها لأمر ما أحاديث الركبان.

*–/*–/*–/*–

والله الموفق

2014-06-20 

محمد الشودري

 

 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.