البحر - بريس تطوان - أخبار تطوان

البحر

كلام لابد منه

 

البحر

 

بقلم الكاتب: يوسف خليل السباعي

 

 

في طفولتي ومراهقتي، كان البحر يجسد لي تلك الطبيعة “المبهمة”، أو ” الملتبسة”. كانت أسرتي الكبيرة كثيرا ما تتردد أحيانا، في الصيف، على ” مولاي بوسلهام”، و” أصيلة” الجميلة أحيانا أخرى.

لم يتبقى من هذه الأجواء البحرية، سوى  بضع صور عن شاطئ  “مولاي بوسلهام” الشاسع، الجميل، وبعض من بقايا الضحك، اللعب، السباحة، المغامرة.

أذكر أنني كنت أقطع مع خالي رضوان، وصديق الطفولة أحمد الريسوني ( هذا الأخير كان رجلا عسكريا، وله رتبة فخيمة في الجيش المغربي، توفي في حادث سيارة) “المرجة” سباحة من دون خوف أو فزع، فنصل إلى أرض شبيهة بجزيرة عامرة بالشجر والجبال العالية، (حيث كنا نتصور أن نسرا “ضخما” يستوطن ذلك المكان)، مثلما نشاهد في الأفلام.
وكان هذا الأمر يتكرر أكثر فأكثر، الأمر الذي جعل أمي تقول لي: ” إذا عدت إلى ذلك الفعل سيخطفك النسر ويقتلك ويأكلك”. وكان كلام أمي يجعلني راغبا في مشاهدة النسر، الذي لم يظهر لي قط، وكنت عند وصولي إلى تلك الجزيرة أنظر إلى الأعالي، وأنتظر، لكن لا شيء يأتي… كنت أنتظر مثل ” غودو”. وغالبا ما كان يأتي هذا النسر في الحلم، فأتخيله ينقض علي بأظافره الغليظة ويطير بي في عنان السماء.

في أصيلة، ستكون لي مغامرات بحرية كبيرة. هاته المغامرات لم تكن سوى خليط من المتع: العلاقات الغرامية، الحشيش، القراءة، الأكل، الشراب وأشياء أخرى. إنه عالم المتع، والدراسة في الوقت عينه. كنت أعشق بحر أصيلة حد الخبال، لكن شيء ما تغير في أصيلة، بعد ” منجزات ما”، بدت الأشياء متغيرة، ولم يعد ثمة سوى بقايا صور راسخة في الذاكرة عن فضاء بحري تلاشى دفعة واحدة، أو أصبح محاصرا.

أما في شواطئ الساحل- المضيق، الفنيدق، وادي لو- ولكل شاطئ إسم، القريبة من تطوان، ذلك أن تطوان مدينة بلا بحر، فكانت فضاءات للقراءة، اللعب، المشي، صداقات خفيفة، الحضور الجسدي بكل توازنه، وجماله. ففي مرتيل، سأترجم بعض مقالات رولان بارث النقدية. أذكر مقالا بعنوان “تاسيت والباروكية المتشائمة”، وستصبح هذه المدينة مفضلة بالنسبة إلي لسنوات، غير أن كل شيء سيتغير، ولا تمكث سوى بقايا صور.

هل يمكن لي أن أحيا من دون ذاكرة؟

إنه شيء غير قادر على احتماله.  

هذا المساء، نزلت إلى  شاطئ مرتيل، وجلست على حيز رملي، أنظر فقط إلى البحر الشاسع. قلت في سري، غير آبه بهراء بعض الفتيات: ” ربما، أنني جلست في زمن مضى في ذات الحيز الرملي، ولكنني لا أتذكر الآن”.

الفتيات يستمررن في الهراء، وأنا أنظر إلى البحر الغائر، الممتد… أحس به يراق في أغواري… وتلامس أمواجه الوادعة قدماي اللتان ترسمان أثار خطواتي في الزمن الماضي.
 

 
 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.