مشبال: صادف دخولنا إلى مصر مشيا على الأقدام قيام ثورة الضباط الأحرار
قال إنه افترق عن رفيق رحلته بفعل الوضع السياسي الذي كانت تعرفه مصر
فوق «كرسي الاعتراف»، يحكي المشّاء خالد مشبال تفاصيل «الرحلة الأسطورية» التي قادته، ورفيق دربه عبد القادر السباعي، من وادي ملوية حتى بحر الإسكندرية، مرورا بتفاصيل مشوقة حينا ومؤلمة أحيانا، من محطاته الجزائرية والتونسية واللليبية؛ كما يتوقف مشبال عند العلاقة التي نشأت بينه وبين الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في القاهرة، ولقاءاته بعدد من رموز الحركة الوطنية المغاربية، ونجوم الثقافة والفن والسياسة في مصر. كما يحكي خالد عن عودته في 1958 إلى المغرب واشتغاله في «راديو إفريقيا»، وتغطيته مؤتمر الوحدة المغاربية، وتفاصيل محاورته المهدي بن بركة الذي أحرجه مشبال بأسئلة عن «إيكس ليبان» وعدم تنسيقه مع الخطابي وخلافاته مع حزب الشورى.
ولا يفوت مشبال أن يعرض لذكرياته مع المهدي المنجرة الذي دخل في خلاف مع مولاي احمد العلوي الذي كُلف بالتخلص من المحطات الإذاعية الأجنبية الجريئة، وكيف فوض إذاعيو هذه المحطات مشبال لتمثيلهم في مفاوضة المسؤولين. على «كرسي الاعتراف»، يُقر مشبال بماضيه السياسي إلى جانب أبرز القادة الاتحاديين، خلال سنوات الجمر والرصاص.. كما يعترف بكل اللحظات الجميلة والعصيبة التي عرفتها إذاعة طنجة على عهده.
– كيف انطلقتما، أنت ورفيق رحلتك، في اتجاه القاهرة، بعد استراحتكما في مدينة سيدي براني المصرية، غير البعيدة عن الحدود مع ليبيا؟
نسيت أن أخبرك بأننا كنا قد توقفنا بمدينة السلوم، قبل الدخول إلى سيدي براني، وفي هذه المدينة سنعلم بخبر سيثير هواجسنا بشكل لم نحسب له حسابا، وبدأ يلوح لنا أن مستقبل هذه المغامرة الطويلة أصبح على كف عفريت..
– أي خبر؟
لقد بلغنا خبرُ قيام «ثورة الضباط الأحرار» أو ما عرف حينها بـ»الحركة المباركة» التي قادها محمد نجيب وجمال عبد الناصر..
– الانقلاب على الملكية، أو ثورة الضباط الأحرار، حدث يوم 23 يوليوز 1952.. بينما كنت أنت وصديق رحلتك قد غادرتما تطوان في ماي من السنة نفسها، يعني أن رحلتكما من المغرب إلى مصر استغرقت منكما أزيد من شهرين؟
نعم، هذه الرحلة/المغامرة استغرقت منا شهرين وزيادة.
– لماذا انزعجتما بعد علمكما بقيام «الثورة»؟
فكرنا في أن البلاد ستكون في حالة طوارئ بفعل التحول الجذري في نظام الحكم، وأن ذلك قد يجعل دخولنا إلى القاهرة بغير السهولة التي كنا نعتقدها.. المهم أننا كنا قد توقفنا، بعد أن قطعنا قرابة 40 كيلومترا انطلاقا من مدينة السلوم، في سيدي براني بحثا عن الأكل، فعثرنا، كما حكيت لك سابقا، على محل بقالة ومطعم، صاحبه مغربي من سوس، وتناولنا فيه وجبة من الطعمية، استطبنا طعمها، حتى إن رفيق رحلتي عبد القادر السباعي قال لي، وهو يلتهم بنهم لقمة في إثر أخرى: إنها ألذ من «الكفتة». يومها أتى كل واحد منا على ثلاثة أطباق من الطعمية. لقد كنا نحس بجوع فظيع، خصوصا وأننا كنا قد تهنا بين الجبال والأحراش في الطريق إلى سيدي براني. وبعد الأكل، جمعنا العديد من المعلومات المتعلقة بالطريق من صاحب المطعم، كما من غيره ممن التقينا بهم في تلك المدينة، والذين منهم من خفف من هولنا ومن قيمة الحدث السياسي («الثورة») واقترح علينا اتباع الطريق المعبد، عسانا نعثر على وسيلة نقل تقلنا إلى غاية الإسكندرية، ومنهم من نصحنا باتباع الطريق الساحلي تفاديا لكل عارض محتمل. انطلقنا بعدها نحو مدينة مرسى مطروح، مشيا على الأقدام، طبعا، ولشد ما كنا نحرص على الابتعاد عن الطرق المأهولة، فقد دخلنا في منطقة جبلية مقفرة، تهنا فيها ليومين بليلهما ونهارهما، فلم نعد نعرف في أي اتجاه نسير.
– لم تقابلا أي شخص؟
لا طير يطير ولا سير يسير. لقد انتابنا خوف مزدوج: الخوف من الطبيعة المقفرة، والخوف من أن نضيع في هذه القفار بعد أن قطعنا كل هذه المسافة ودخلنا إلى التراب المصري، أو يقبض علينا فتتم إعادتنا من حيث جئنا. من ناحية أخرى، فبالإضافة إلى الجوع، كان برد الليل قاهرا، ولم نكن نجد حلا لمقاومته غير الانكماش والاشتباك في بعضنا وقضاء الليلة متعانقين. في صباح اليوم الثالث انطلقنا على غير هدى، وبينما نحن نمشي، لاح لنا من بعيد رجل يمتطي دابة، فاعتبرنا ذلك علامة فرج، وأسرعنا في اتجاهه. وعندما اقتربنا منه بمسافة ليست بالبعيدة، بدأنا نناديه حتى يتوقف، فلم يجبنا، فأعدنا الكرة ملء قوتنا، فلم يلتفت إلينا بل مضى مهرولا فوق حماره. ضاعفنا سرعتنا إلى أن قابلناه. وعندما توقف اكتشفنا أنه أصم أبكم، فلم يكن أمامنا إلا أن نمشي في إثره إلى غاية مدشر صغير، وهناك تحدثنا إلى بعض السكان الذين دلونا على الطريق الصحيح لاستكمال رحلتنا نحو مرسى مطروح.. مشينا لحوالي أربع ساعات في اتجاه الساحل، فلاقينا بعض القرويين الذاهبين إلى أحد الأسواق عبر طريق معبدة، (يصمت) وهنا وقع الخلاف الأول بيني وبين رفيق رحلتي المرحوم عبد القادر السباعي.. الخلاف الأول منذ خروجنا من تطوان.
– ما الذي حدث؟
أصر عبد القادر على أن نسلك الطريق الساحلي تفاديا لأي طارئ قد نصادفه عبر الطريق المعبدة، خصوصا وأن البلد كانت تعرف حالة استثنائية بفعل قيام الثورة؛ بينما أصررت أنا على اتباع الطريق المعبدة عسانا نصادف وسيلة نقل تقلنا إلى غاية مرسى مطروح أو الإسكندرية. وعندما لم يستطع أي منا إقناع الآخر بوجهة نظره افترقنا. لقد ساهم الإرهاق والخوف من أن يلقى علينا القبض وتضيع منا الرحلة في احتداد الخلاف وتصلب كل منا في موقفه. وهكذا افترقنا ولم نلتق إلا في القاهرة.
– كيف أكمل كل منكما رحلته إلى غاية العاصمة المصرية؟
عندما انحدر عبد القادر نحو البحر، داهمه الليل وانتابه الخوف، فعاد أدراجه إلى الطريق المعبدة، ومن حسن حظه أنه بمجرد ما عاد إلى الطريق وجد من يقله إلى غاية مرسى مطروح. بينما أنا الذي اخترت منذ البداية المشي جنب الطريق المعبدة لم أجد من يحملني إلا في ساعة متأخرة من الليل، حيث توقفت شاحنة فسألني سائقها عن هويتي ووجهتي، وعندما توسلت إليه أن يحملني وحكيت له قصتي وكيف افترقت عن صديقي، رق قلبه فحملني معه إلى غاية مرسى مطروح.
المساء